عشية الانتخابات الإسرائيلية

TT

بقي أقل من شهر على توجه الناخبين الاسرائيليين الى صناديق الاقتراع في انتخابات عامة هي الثالثة خلال اربع سنوات. وهذا، بحد ذاته، دليل على الانقسامات وعدم الاستقرار التي باتت تميز القضايا السياسية الاسرائيلية، وهو وضع خطير يجعل تحقيق السلام امرا صعبا.

وهناك طريقتان مميزتان لوصف خطوط التقاطع في القضايا السياسية الاسرائىلية. فهناك، من ناحية، الصدع العميق الموجود بين المعسكرين المؤيد للسلام والمضاد للسلام، واللذين يشار اليهما بتعبير يسار ويمين اسرائيل. وظل هذا الانقسام يتزايد منذ توقيع اتفاقات أوسلو، وتدهور على نحو اكبر بعد عامين من العنف المتزايد حدة. فقبل عقدين من الزمن، مثلا، لم تكن سوى عناصر متطرفة مثل اتباع مئير كاهانا، تدعو الى طرد العرب من اسرائيل والاراضي المحتلة. وفي الوقت الحالي يعمل ممثلو هذه الآيديولوجيا المتطرفة والعنصرية وزراء في حكومة أرييل شارون، يمارسون مهامهم مع أولئك الذين اتهمتهم ليئا رابين، ذات يوم، بالتحريض على العنف الذي حصد، في نهاية المطاف، حياة زوجها اسحاق رابين.

ان القصة التاريخية المقبولة التي توضح آيديولوجيا الجناح اليميني، هي انه «ليس لدى اسرائيل شريك سلام. فقد قدم ايهود باراك، مجسدا ذروة عملية أوسلو، عرضا سخيا لعرفات. وقد رفضه عرفات ولجأ الى العنف مهددا وجود دولة اسرائيل ذاته». والدرس الذي سعى شارون الى استخلاصه من هذه التجربة هو ضرورة انهاء تجربة أوسلو، وتحطيم السلطة الفلسطينية. وحتى الوقت الحالي فإن اغلبية الاسرائيليين دعمت موقف رئيس الوزراء الليكودي.

وبينما أصبح الجناح اليميني أقوى، تقلص حجم قوى السلام. ولم تكن هذه القوى مهيمنة في اسرائيل أبدا. وحتى اثناء ولاية اسحاق رابين كان هناك انقسام بين المعسكرين، وهو السبب الذي جعل رابين، وكذلك شمعون بيريز لاحقا، يجدان صعوبة في ان يدفعا الأمور بقوة أعظم باتجاه التوصل الى سلام نهائي. وعلى أية حال فإن حزب العمل، الذي كان يقوده رابين، والذي كان مهيمنا، يواجه آفاق التقلص الى ما يقرب من نصف قوته السابقة.

الدليل الآخر على هذا التحول نحو اليمين في الوضع السياسي الاسرائيلي، هو التقارير التي تسربت الى الصحافة الاسبوع الماضي والتي اشارت الى ان زعيم حزب العمل الجديد، عميرام متسناع، قد اقترح خارطة لانسحاب اسرائيل من طرف واحد من الضفة الغربية وغزة. وتتخلى الخارطة للفلسطينيين عما هو اقل بكثير مما عرضه باراك في كامب ديفيد. وما دام كثيرون ينظرون الى متسناع باعتباره «الأمل الكبير» بالسلام، فإن حقيقة ادراكه بأنه لا يستطيع المضي الى ما هو أبعد من هذا العرض الشحيح، تكشف الكثير عن التحول الراهن في الوضع السياسي الاسرائيلي.

وهناك خط تقاطع آخر يحدد الوضع السياسي الاسرائيلي المعاصر، وذلك هو الانقسام الاثني/ الطائفي. فهناك 20 في المائة من سكان اسرائيل من العرب، و 20 في المائة آخرون من المهاجرين الروس الجدد، اضافة الى 20 في المائة آخرين من اليهود المتزمتين دينيا. وليست لهذه الجماعات الثلاث أسس مشتركة تقريبا، وفي حالات كثيرة، لا تتكلم حتى اللغة ذاتها. وكل هذا، بالطبع، يجعل من الصعب تماما اقامة نظام سياسي مستقر.

والسؤال هو: ما الذي يتعين على العرب فعله في مواجهة هذا الوضع المشوش؟ من الضروري، في المقام الاول، الاعتراف بأن الوضع يمكن ان يصبح أسوأ. فارتباطا بسيادة المحافظين الجدد والمحافظين المتشددين في الوضع السياسي في الولايات المتحدة، واستمرار هيمنة الليكود في الوضع السياسي الاسرائيلي، هناك مخاطر حقيقية من امكانية ظهور «كارثة» ثالثة في فلسطين.

واتذكر انه في نهاية عهد ادارة كلينتون كان بعض العرب يؤكدون ان انتخابات في الولايات المتحدة أو في اسرائيل لن تغير من الأمر شيئا، وان الوضع لا يمكن ان يكون أسوأ. وكانوا مخطئين، عندئذ، واذا كانوا ما يزالون يعتقدون بالشيء ذاته، فإنهم يمكن ان يشهدوا نتائج اكثر فظاعة في المستقبل.

وقد أكدت، قبل عام، هنا في هذه الصفحة، على ان العنف يجب ان ينتهي. ان هذا اكثر ضرورة والحاحا اليوم. فخطة اسرائيل تصبح اكثر وضوحا كل يوم. وتقضي باستثمار الغضب والخوف اللذين تخلقهما التفجيرات الانتحارية من أجل تفكيك السلطة الفلسطينية بالكامل، والاصرار على الاحتلال الكامل، وتوسيع قواعد الاستيطان في الضفة الغربية وغزة. ويهدف التسارع في عمليات الاغتيال والاعمال الاستفزازية الأخرى الى الاسراع في تحقيق هذا الهدف. وعندما يرد الفلسطينيون على ذلك بالعنف، فإن هذا يؤدي الى المزيد من اضفاء الشرعية على هذه الخطة الاسرائيلية، عبر توفير دعم أقوى لجهود شارون في اسرائيل والولايات المتحدة.

وفي البيئة السياسية الفلسطينية الراهنة، سيتطلب الأمر طاقة هائلة لممارسة ضبط النفس واستكمال الاتفاقات بين فتح والأطراف الفلسطينية الأخرى، التي جرى السعي اليها في القاهرة. ويمكن دعم هذه الجهود من جانب الدول العربية الكبرى. وتتمثل احدى طرق القيام بذلك في تنفيذ حملة واسعة لدعم قرار تأييد السلام الذي اتخذته قمة بيروت العربية.

ان تأثير هذين الجهدين المترابطين، على الرغم من صعوبة تحقيقهما، يمكن ان يؤدي الى بعض النتائج الايجابية للفلسطينيين.

وحتى على الرغم من ان كتلة الجناح اليميني في اسرائيل تتمتع بموقع مهيمن، فقد اضعفها الكشف، مؤخرا، عن الفساد والاحتيال في كسب اصوات الناخبين. وبينما يبقى حزب العمل في حالة ضعيفة، فإن ميريتس، الحزب الذي يقف على يسار حزب العمل، قد تعزز الى حد ما، ويمكن ان يقدم بعضا من الدعم الضروري لكتلة السلام.

وقد كشف استطلاع للرأي في المجتمع الاسرائيلي، جرى مؤخرا، عن نتائج متناقضة، لكنها لافتة للنظر. فهناك اغلبية ساحقة تريد السلام المستند الى وجود دولتين مستقلتين، ولكن اغلبية كبيرة تبقى قلقة ولا تثق بأن السلام ممكن. ويمكن ان تكون الخطوات المتخذة لتعزيز تعهدات العرب بالسلام أمرا نافعا في هذا الصدد.

ان الألم والغضب الفلسطينيين حقيقيان ومشروعان، ولهذا فإن اتخاذ مثل هذه الخطوات نحو السلام سيكون أمرا في غاية الصعوبة، خصوصا ان اسرائيل تواصل استفزازاتها الوحشية. ولكن هذا هو بالضبط السبب الذي يجعل اسرائيل تتصرف كما تفعل الآن، من أجل اعاقة أية خطوة سلام عربية والاستمرار في دورة العنف التي يستخدمونها لصالحهم. ولكن اذا ما تمكن العرب والفلسطينيون من تنظيم قوتهم، وتوجيه الرسائل الصحيحة، فإنهم قد يكونون قادرين على تغيير الخطاب السياسي الاسرائيلي الداخلي لصالحهم. وفي الوقت ذاته يمكنهم الفوز بالكثير من الدعم الضروري في الغرب، الذي يمكن ان يؤدي الى منع الاسرائيليين من مواصلة الهجمات الجائرة والمدمرة على الفلسطينيين المحاصرين.

لقد كان الخطاب الأخير الذي ألقاه أبو مازن في غزة مؤخرا صحيحا تماما. فالطريق الراهن الذي سلكته الانتفاضة الثانية لم يأخذ الفلسطينيين في اتجاه يؤدي الى تحقيق مطامحهم الوطنية. وهو ما يناقض آراء أولئك الذين أكدوا قبل عامين على ان الوضع لا يمكن ان يكون أسوأ ـ وقد كان ـ بل انه يمكن ان يكون أسوأ من الآن. فليس هناك ضمان من ان اجراءً تصحيحياً يتخذ الآن سيؤدي، عاجلا، الى نتائج ايجابية. إلا ان ما هو مؤكد هو ان الطريق المسؤول الوحيد، في مواجهة الكوارث التي تهدد بالوقوع، يمر عبر القيام بجهد حقيقي لتغيير الآلية الراهنة. وتتمثل احدى الطرق للقيام بذلك في محاولة تحويل الانتفاضة، بدعم عربي، الى تحدٍ جريء من أجل السلام عشية الانتخابات الاسرائيلية.