الناتو على أعتاب البيت الروسي

TT

قد يبدو للوهلة الأولى أن واشنطن عندما تقف في شخص رئيسها تتحدث إلى العالم في اجتماع الناتو الأخير المنعقد في براغ، تستطيع قول كل شيء والحصول على كل شيء من حلفائها في أوروبا. ويتلخص المطلب الأساسي في تشكيل قوة عسكرية حديثة التجهيز وسريعة التحرك ومخولة للتدخل في أي جزء من العالم، إضافة إلى التزام الشركاء الأوروبيين بالاستثمار في التحديث العسكري. ويمكن القول إن الضغط الذي تمارسه واشنطن على حلفائها قد نجح في تغيير أمور كانت تقع ضمن قائمة المحظورات، وذلك حين صادق وزراء خارجية دول الحلف على إمكانية تحرك قوات الأطلسي خارج المنطقة الأوروبية ـ الأطلسية إذا استدعى الأمر لمواجهة التهديدات الجديدة. وستكون مدينة براغ المحطة القادمة لإنشاء ما يسمى قوة مواجهة الأزمات قوامها عشرون ألف جندي، وستكون جزءاً مما يعرف بقوات الناتو للتحرك أو الاستجابة لما قد يستجد «Nato Response Force»، التي يجري التخطيط لها لتكون جاهزة للتحرك والتدخل في أي بقعة من العالم بحلول عام 2005 . وفي هذا الصدد يقول وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد، انه إذا لم تكن قوات الحلف قادرة على ذلك خلال أيام أو أسابيع قليلة، فإنها لن تكون قادرة على تقديم شيء للعالم في القرن الجديد.

وقد وافق الحلفاء الأوروبيون على هذا البرنامج على مضض، لانهم يخشون، عن حق، ظهور قوة جديدة وسريعة، من شأن تمركزها أن يعني نهاية لدور مراكز الاتحاد الأوروبي وخططه المزمعة، كما انهم يشعرون بقلق مشروع تجاه الحقيقة التي تفيد بان الجندي الأوروبي سيشترك في عمليات تقع خارج نطاق سيطرة دولته على تحركه. واستنادا إلى تصريحات دبلوماسي من الناتو رفيع المستوى، فان المسلّمات تكون اكثر فاعلية إذا جرى تثبيتها تحريريا، وان مجلس الناتو وهو الهيئة الأعلى للحلف يجب إن يتخذ بالإجماع قرارات تحرك قواته.

ورغم التلكؤ الواضح في الموقف الألماني، فقد وافقت برلين على التوجه الجديد لأنها لا تريد تعريض علاقتها مع واشنطن إلى المزيد من الإرهاق.

في الواقع، لقد أثبتت الأحداث أن القوة العسكرية الاميركية العظمى ليست بحاجة إلى مساعدة حلفائها. وعندما نادى الناتو أعضاءه للتحرك اثر أحداث 11 سبتمبر (ايلول)، شكرت واشنطن الحلفاء، ورفضت المساعدة العسكرية، إذ أن حربا تشنها في إطار الحلف كان سيقيد حريتها في ضرب ما تراه ضروريا، وكان سيعني طلب الموافقات عن كل عملية تريد القيام بها، وهذا أمر لا يتناسب مع توجهها في الرد السريع على الأحداث.

الموقف من الحرب المحتملة ضد العراق شبيه بالموقف من أفغانستان، فواشنطن لا تزال راغبة بالانفراد عسكريا بهذه الحرب، إدراكاً منها بتفوقها العسكري أولا، وتخلف الحلفاء عسكرياً عنها ثانيا، وهي حقيقة تؤكدها الميزانية العسكرية الاميركية المصادق عليها لعام 2003، والتي ستبلغ 400 مليار دولار، وهو رقم يتجاوز ضعف الميزانيات العسكرية لمجموع دول الحلف. وحسب تصريحات القائد العسكري جوزيف رالستون فان الولايات المتحدة تمتلك وحدها 250 طائرة عسكرية للمسافات الطويلة، في حين لا يمتلك الحلفاء سوى 11 طائرة من هذا النوع. كما زاد المشكلة تعقيدا تعثر خطط إدخال طائرات من طراز Air Bus A 400 ، لتحديث الأسطول الجوي وذلك بسبب التقشف في ميزانيات هذه الدول.

ويسعى الحلف أيضا إلى استحصال مصادقة جماعية على قائمة تحتوي على 400 إرسالية عسكرية من شأنها تغطية الحاجات العسكرية والتسليح الحديث لكل دول الحلف وذلك بانقضاء عام 2015 . وطموح الناتو في ما يسميه مواجهة تهديدات وتحديات القرن الواحد والعشرين، يفسر إلى حد بعيد، إصراره على التوسع نحو الشرق وقبول أعداء الامس كشركاء، رغم تحذيرات الخبراء العسكريين في وزارة الدفاع الاميركية، إذ يرى هؤلاء في انضمام دول البلطيق الثلاث ليتوانيا واستونيا ولاتفيا عبئا إضافيا حيث لا تمتلك هذه الدول غير جيوش صغيرة لا يزيد مجموعها على 23 ألف مجند، علاوة على سلاحها السيء والمتخلف. وعلى العكس مما حدث عام 1991، حين انسحبت القوات الروسية من أوكرانيا مخلفة وراءها عدتها العسكرية من طائرات وسفن حربية، فقد اخذ الجيش الروسي كل أسلحته وعتاده وهو يغادر دول البلطيق. والسبب الرئيس لقبول عضوية هذه الدول هو امتلاكها شبكة رادار متطورة مشتركة تتيح استكشاف حركة الطائرات في المجال الجوي الروسي المجاور، علما بان هذا النظام قد سبق وان موّلته كل من الولايات المتحدة والنرويج.

أما ما يخص الأعضاء المستقبليين الضعفاء عسكريا، بمن فيهم بلغاريا ورومانيا اللتان تمتلكان جيشين كبيرين، فيؤخذ عليهما تخلف جيشهما وعدم نجاحهما بعد، في إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وتطوير سلاحهما، بل أن طائراتهما السوفياتية الصنع، عاجزة عن العمل ولا يمكن إصلاحها لانعدام قطع الغيار اللازمة، هذا إلى جانب عدم توفر الإمكانيات المادية لشراء طائرات جديدة. ولا تستطيع رومانيا دفع النفقات اللازمة لتدريب طياريها بشكل يضمن سلامتهم. كما لا يزال الغرب يتوجس خيفة من أن يفشي الشركاء الجدد أسرار الناتو، وهو ما لا ترتاح إليه بروكسل التي لم تخف تحفظها على نتائج الاختبار الذي شمل 1300 موظف ومجند قامت به سلوفاكيا من اجل اختبار ولائهم واهليتهم للعمل في القوات المسلحة، ولم يفشل في الاختبار سوى 12 شخصا، وهو عدد قليل لم يرض رجال بروكسل.

و يرى المختصون في وزارة الدفاع الاميركية أن الفساد المستشري في هذه الدول يعد خطرا لا يجوز التقليل من شأنه. كل هذه التحفظات وغيرها من التناقضات في وجهات نظر المعنيين قد تؤدي إلى فشل الاجتماع المقبل للمصادقة على انضمام الشركاء الجدد وسيقود إلى إحراج الحلف.

وعلى كل حال فان الحكومة الاميركية تريد توسيع الناتو بأي ثمن، وهي مهمة رفع رايتها وزير الدفاع وقاتل من اجلها هادفا من وراء ذلك ضمان الدعم السياسي لواشنطن من الشركاء الجدد وفتح أجواء و أراضي هذه البلدان لطيران اميركا ولهبوط طائراتها، وهو هدف تطمح إليه الولايات المتحدة وتريد تثبيته للمستقبل البعيد أيضا.

الاتحاد الروسي لم يقف ضد التوسع الجديد ولم يعترض على انضمام دول كانت بالأمس القريب ضمن حلف وارسو. الشيوعيون الروس هم وحدهم من يرى في هذا الانضمام خطراً على روسيا، بل ويقارنوه بالخطر الألماني الذي واجه روسيا عام 1941، في حين تخشى الحكومة الروسية أن يكون هذا التوسع على حساب ما توصلت هي إليه من اتفاق مع الحلف في روما في مايو (أيار) هذا العام حول تأسيس مجلس مشترك. وقد دعا الرئيس الاميركي جورج بوش روسيا إلى عدم الشعور بالخوف من توسع حلف شمال الأطلسي الذي بات يدق على بوابات موسكو ويسعى إلى تهميش دورها في السياسة العالمية.

طموح الناتو الذي يمتد مثل بقع الزيت التي تنتشر في المحيطات بعد غرق كل ناقلة نفط لتدق ناقوس الخطر بضرورة الانتباه والحذر، يشي بوضوح بدخول العالم الجانب العسكري من العولمة. ورغم كل ما يسعى إليه الحلف، فان في العالم قوى أخرى ومصالح مناهضة لأطراف عديدة حتى داخل الحلف، وربما سيشهد القرن الواحد والعشرين نهوض أقطاب عملاقة كامنة في القارة الآسيوية تحوّل طموحات الحلف الكهل إلى نمور من ورق.

* كاتبة من العراق مقيمة في برلين