2002: «العروة اليمنية»

TT

منذ ان ملأ اسم اسامة بن لادن جدران الاحداث الدموية حول العالم، بدأت الناس تلاحظ ان ثمة خطاً «يمنياً» في كل حدث: من اسماء 11 سبتمبر الى المدمرة «كول» الى نسف الناقلة الفرنسية في المكلا الى احداث شرق افريقيا، الى تفجير «بالي» واعتقال الشيخ باعشير زعيم المتشددين الاندونيسيين. وقد اثار اعتقال باعشير مرة اخرى في جاكرتا الكلام عن «العروة اليمنية» او «الرابط اليمني». فالمتحدرون اليمنيون، باسمائهم التي لم تتغير، من العطّاس الى السقاف الى الباءات الحضرمية، كانت دائماً جزءاً من الحكم منذ ايام سوكارنو. وكانت خصوصاً جزءاً من الدبلوماسية، لما في الطبع اليمني، مغترباً او مقيماً، من شهرة في لين العرائك.

غير ان «العروة اليمنية» كانت ضمن المؤسسة الحاكمة، وليس ضدها كما حدث في متغيرات الايام. وفي افريقيا الشرقية كان اليمنيون في مهارات التجارة وليس في مهارات التفجير. الا ان الآونة الاخيرة قلبت صورة «العروة اليمنية» من اهل النفوذ والتجارة الى ابناء التشدد والتفجير. ولا يمكن ان يُنظر الى اغتيال جار الله عمر في صنعاء في الايام الاخيرة من 2002، الا على انه دفع للتعميم غير العادل. فاليمني ليس فقط لاعباً اساسياً في ثقافة الاغتيال، بل هو ايضاً ضحية اولى من ضحاياها.

سقط جار الله عمر في مشابهة غريبة مع سقوط غاندي: بعد خطاب مطول عن التسامح والسلام والاخوة، يتقدم منه قاتل ماهر التصويب، ثابت اليد، كثير التدريب، ويقول كلمته الاخيرة. اللغة الوحيدة التي يعرفها، وبالتالي اللغة الوحيدة التي يجيدها.

الباقي تفاصيل درامية لا اهمية لها الا في عمل روائي. اي ان يكون جار الله عمر هو الذي عمل من اجل اطلاق سراح قاتله عندما اعتقل هذا عام 2000، او ان يكون جار الله عمر ابرز المطالبين بالتحالف مع الاحزاب المتشددة واعطائها حرية العمل السياسي الحقيقي، هذه امور لا يقيم لها القاتل، جار الله علي، اي وزن على الاطلاق. والفارق بين جار الله القاتل وجار الله القتيل، ان الثاني تعلم الحياة عندما بدأ طالباً في المدارس الدينية ثم مرّ في تجربة المعارضة، ثم مرّ في تجربة اليسار، ثم استقر الى الخيار القومي الديمقراطي. ان في نفسه وحدها تعددية الانسان وحقه في الابحار نحو الحقيقة، مروراً بموانئ الضعف البشري. اما القاتل فلديه حقيقة واحدة هي الموت والقتل، ورأى ان ذروة السعادة والحكمة هي في خيار وحيد، فإما ان يموت هو وإما ان يُقتل غريمه. الباقي مضيعة للوقت وهدر لطاقات العقل.

ما بين «احداث» اليمني في الخارج واحداثهم في الداخل، صورة مستجدة لبلد كان يحصر ثقافات العنف ضمن حدوده: العنف القبلي المستمر، والعنف المرعب الذي مارسه الرفاق في الجنوب ايام الراية الحمراء، والرعب الاكثر ارهاباً يوم دعا الشمال الجنوب الى طاعة الوحدة، وعمليات الاغتيال الفردية التي لم توفر مستوى سياسياً.

اين تقف جريمة صنعاء: هل جار الله القاتل وجار الله القتيل، حالة معزولة ام حلقة ذات صلة؟ هل القتل خاتمة طبيعية لسيرة جار الله علي، الغاضب من كل شيء وعلى كل شيء، النافث ابداً حممه، كأنما الغضب غاية وارتضاء وفرج، بل كأنما الغضب هو الرحمة التي لا يكف عن الدعوة اليها؟ وهل جار الله عمر، هو الضحية الطبيعية لقاتل في طبع جار الله علي، عملاً بقاعدة «اتق شر من احسنت اليه»؟ ألا نرى في الحياة ذلك النموذج من البشر او المخلوقات التي تتحول الى ثيران تناطح كل يد، بدون استثناء، رمت اليها شيئاً ما، في وقت ما، في اي وقت؟ ام ان جريمة صنعاء تتخطى النفس الرديئة الى مؤامرة اكبر من القاتل وابعد من القتيل؟