السؤال الكبير هو: هل للمجتمع العربي فاعلية وحضور أم لا؟

TT

هذه فكرة أو دعوة تلح عليّ في نهاية كل سنة ميلادية، ظللت احجم طول الوقت عن الافصاح عنها، لظني ان تنفيذها من الصعوبة بمكان، ناهيك من انني لم أكن واثقا من امكانية نشرها أصلا لان البعض قد يتصور انها تمس بعضا من الخطوط الحمراء، رغم ان لدي مرافعة طويلة حافلة بالحجج التي تثبت جدوى الفكرة وفائدتها، فضلا عن حسن نيتي وسلامة مقصدي. ولست أجد سببا وجيها لاقدامي على محاولة عرض الفكرة على الرأي العام هذه المرة، إذ الأغلب انها المصادفة التي جمعت بين تاريخ نشر المقالة ونهاية العام، الأمر الذي شجعني على «التهور» والافراج عن الدعوة المحبوسة.

خلاصة الفكرة اننا اعتدنا في نهاية كل عام على ان «ننتخب» شخصيات ذلك العام، الذين تتصدر صورهم وسيرهم مختلف الصحف ووسائل الاعلام الأخرى، وغالبا ما «يتصادف» ان يتم اختيار نفس الاشخاص من أولي الأمر كل سنة، سواء لأسباب مختلفة أو لنفس الأسباب التي رشحتهم للفوز باللقب في العام الذي سبق، حتى صار بوسع أي واحد أن يتنبأ باسم شخصية العام في العديد من الأقطار العربية، ليس ذلك فحسب وإنما أصبح ميسورا أن يعرف المرء من هم الفائزون «المنتخبون» لعدة سنوات مقبلة أيضا!

وإزاء استمرار هذه الظاهرة لعدة سنوات، فإن الدائرة اتسعت بشكل تدريجي وظهرت بدعة جديدة مؤداها ان المؤسسات المحلية المختلفة بدأت تنتخب بدورها رجل العام وسيدة العام على مستوى المؤسسة، وكما ان أولي الأمر على مستوى الدولة هم شخصيات العام وكل عام، فإن أولي الأمر على المستوى الأدنى كانت لهم نفس الحظوظ، حيث انتخبوا جريا على السُّنَّة التي جرى سنها، بالتالي فان الوزير صار رجل العام في وزارته، والمدير رجل العام في مديريته، والمحافظ في محافظته، ورئيس التحرير في صحيفته... وهكذا.

من أجل حبك المسألة، واثبات صدقية تلك «الاستطلاعات»، فان ذلك اقتضى انشاء مراكز تحمل اسماء كبيرة مثل «بحوث الرأي العام» و«استراتيجيات العمل الوطني» تولت «طبخ» النتائج المطلوبة وتفصيلها حسب الهوى والقد والقياس، وهذه المراكز ـ للأمانة ـ لم تنشأ بتوجيه أو طلب من أي أحد، ولكن الأجواء أفرزت طبقة من أشباه الأكاديميين الانتهازيين الذين يميلون مع كل ريح، ويركبون كل موجة، ويوظفون عملهم لصالح من يدفع أو يمنح، وهؤلاء بادروا من جانبهم بانشاء تلك المؤسسات للقيام بالواجب المطلوب، و«جس نبض الجماهير»، «تأكيدا للشفافية»، و«سبرا لأغوار المجتمع» و.. و..إلخ.

في الصحافة حدث شيء مضحك كشف الهزل في المسألة، فقد كلف أحد رؤساء المؤسسات التي أعرفها مركزا لبحوث الرأي العام بالقيام باستطلاع حول أهم الصحف وأهم الكتاب في البلد، وجاءت النتيجة موافقة تماما للهوى، فأهم الصحف كانت تلك التي كلفت المركز بالقيام بالاستطلاع، أما أهم كاتب فكان رئيس المؤسسة الذي وقع على «الشيك» المرسل للمؤسسة!، غير ان رئيس مؤسسة صحفية أخرى منافسة في نفس البلد كلف مركزا آخر باجراء استطلاع حول أهم الكتاب، ولان سمعة جريدته بائسة وتوزيعها متواضع، فلم يطلب ان يشمل الاستطلاع قياسا أو تحديدا لأهم جريدة، خصوصا ان توزيع الصحف له أرقامه التي يتعذر اللعب فيها، أما أهم كاتب فقياس أهميته لايعتمد على أرقام، ويتعذر اثبات عدم صدقيته، المهم ان المركز الآخر أدى واجبه على النحو المطلوب وأعلن نتائج استطلاعه الذي أكد بعد البحث والفحص والتقصي ان أهم كاتب هو رئيس المؤسسة التي كلفته بالمهمة، الأمر الذي تحول الى نكتة ومشهد ساخر في نهاية المطاف.

وجدت ان فكرة شخصيات العام فقدت أهميتها في العالم العربي، وابتذلها آخرون في نهاية المطاف، في حين انها فرصة جيدة لتسليط الضوء على النماذج التي تجسد القيم النبيلة في المجتمع، تشجيعا لهم وتكريما لجهودهم ودعوة للآخرين الى احتذائهم، في أجواء يفتقد الناس كثيرا تلك النماذج التي تحتذى.

لاحظت في الوقت ذاته ان دبي قدمت نموذجا طيبا في العام الماضي، حيث جرى تكريم موظف ظل مواظبا على عمله ومنتظما فيه ولم يؤخذ عليه خطأ واحد طيلة عشرين عاما، وحدث نفس التكريم لعدد آخر من الشخصيات العادية التي أثبتت تفانيا واخلاصا في العمل. وكان ذلك استثناء لم أجد له مثيلا في أي بلد عربي آخر، بينما القاعدة في الدول الديمقراطية ان يقع اختيار شخصية العام بناء على معايير موضوعية حقيقية لا تسامح فيها ولا مجاملة، وقد اختارت مجلة «تايم» هذا العام مثلا ثلاث سيدات واعتبرتهن شخصيات العام في الولايات المتحدة، لانهن أسهمن في فضح الغش في الموازنات الذي مارسته بعض الشركات الكبرى، الأمر الذي أحدث هزة قوية للاقتصاد الاميركي. وأذكر ان انجلترا اختارت ذات يوم ناظر مدرسة ابتدائية شخصية العام، لأنه تدخل للدفاع عن بعض تلاميذه في مشاجرة، فطعن من جراء ذلك وسقط صريعا. وفي ذلك العام تقدم ناظر المدرسة على الملكة التي كان دورها الثالث في ترتيب أهم الشخصيات.

أما اقتراحي فيتلخص في اعتبار أولي الأمر شخصيات محايدة خارج المنافسة ولا خلاف عليها، ثم ان لها حظوظها من الأضواء على مدار العام، فجهودها محل متابعة، والصحف ووسائل الاعلام الأخرى لا تقصر في إثبات تلك الجهود والإشادة بها في كل مناسبة، من ثم فالأشخاص معروفون، وأعمالهم مشهرة، واعتبارهم شخصيات العام لايضيف شيئا لا الى اقدارهم ولا الى معارف المجتمعات التي ينتسبون إليها، ولا الى القيم التي يراد نشرها واعلاء شأنها. ثم اننا رأينا ان العملية حين ابتذلت فانها فتحت الأبواب للنفاق والانتهازية، ومن ثم تحولت من محاولة لتعزيز كفة القيم الإيجابية الى باب انفتح لتسرب القيم السلبية.

انني أدعو الى اخراج كل المسؤولين الذين يقفون في الصفوف الأولى من دائرة التنافس على شخصيات العام للأسباب التي ذكرتها توا، وأضيف إليها ان وجودهم في مقاعدهم ومناصبهم فيه معنى التكريم والتقدير لهم، وأتمنى ان تنحصر دائرة الاختيار في محيط الناس العاديين الذين يقفون في الظل. هؤلاء المغمورون ذوي الضمائر الحية والدوافع النبيلة، الذين يتفانون في أداء واجباتهم، ولم ينتظروا من أحد جزاء ولا شكورا، هذه النماذج الرائعة موجودة في مجتمعاتنا، لكنها للأسف تعيش في الظل دائما، بينما اخبار الأفاقين والمنحرفين والسارقين والقتلة لها صفحات مخصصة في مختلف الصحف، وتلوك المجتمعات سيرهم وقصصهم طول الوقت، كما ان فضائح الفنانين والفنانات تحولت الى أبواب ثابتة في بعض الصحف، بينما تخصصت مجلات أخرى في اشهارها ومتابعة تفصيلاتها، وكذلك الحال مع لاعبي الكرة الذين أصبحوا نجوما عالية في مجتمعاتنا، التي عانت من الفراغ السياسي، فحولت الفرق الرياضية والأندية الى أحزاب صبَّت فيها حماسها وطاقات انفعالها.

أما اولئك النبلاء والصامتون العاملون في مواقع الخدمات والانتاج، فلا أحد يذكرهم أو يقدر جهودهم، أو يشجعهم بكلمة انصاف أو بشيء رمزي يقدم إليهم، لذلك فهم أشد ما يكونون حاجة الى مثل هذه اللفتة، التي لا اشك في انها سوف تنعشهم وتجدد عزائمهم، واذا سلطت عليهم الأضواء فإن ذلك لن يرد إليهم اعتبارهم فحسب، وإنما سيحولهم الى نجوم ومثل عليا في مجتمعاتهم الصغيرة.

وفي أقطار عدة تفوح في أرجائها روائح الفساد، ولا يتوقف اللغط حول أدوار وممارسات الفاسدين والمفسدين، فإن تسليط الأضواء على تلك النماذج القليلة من شأنه ان يوازن الصورة، وان يجدد لدى الناس الأمل في الحاضر والمستقبل.

اعرف طبيبا ظل يعمل واقفا طوال 48 ساعة دون توقف، وهو صائم خلال شهر رمضان لإعادة تركيب أصابع صبي فقير يعمل في ورشة، بترت إحدى الماكينات أصابع يده، ونجح في أن يعيد وصل الأصابع بالكف وانقاذ يد الصبي من العطالة، وفعل ما فعله بالمجان، وحسبه لوجه الله تعالى، واعرف مدرسا للرياضيات بسيط الحال هو الوحيد من بين مئات الآلاف من أقرانه الذي يرفض اعطاء الدروس الخصوصية، واذا ما لجأ إليه أي تلميذ فإنه يقدم له المساعدة في بيته بالمجان، وعرفت انه يقترض من شقيق له مزارع لكي يتمكن من إعالة أسرته، ولم تطاوعه نفسه حتى الآن ان يعطي لتلاميذه دروسا بمقابل خارج المدرسة، اشتهر بين زملائه باسم «غاندي»، نظرا لزهده وتقشفه الشديدين وقناعته بما قسم له.

بل ان كل واحد من الشبان أو الفتيات الذين ودعوا الدنيا بكاملها، ثم فجروا أنفسهم في قلب العدو الاسرائيلي، كل واحد من هؤلاء جدير بأن يكون شخصية العام بامتياز، ولو ان بيدي من الأمر شيئا لأعلنت الشهيد الفلسطيني شخصية العام العربية، ليس فقط نظرا لبطولته، وإنما أيضا لأنه رمز للأمل الباقي والوحيد لهذه الأمة التي استباحها الآخرون وأهانوا عزتها وكرامتها.

لا أستطيع أن أحصي النماذج الرائعة في مجتمعاتنا العربية القابعة في الظل، والتي نحن أحوج ما نكون لان نستضيء بها في زمن التراجعات المسكون بالقبح والانكسار، ولست هنا في مقام عرض تلك النماذج، إنما الذي يعنيني هو الفكرة التي لا أعرف اذا كان هناك من هو مستعد لتبنيها أو مناقشتها، لكن الذي أعرفه جيدا اننا بحاجة لأن نبذل جهودا كبيرة لكي نعيد الأمل الى مجتمعاتنا التي دب فيها اليأس والاحباط، ولكي نرد اعتبار القيم الإيجابية والنبيلة التي شملها التراجع والانكسار.

ان السؤال الحقيقي ليس من يكون شخصية العام، وهل يختار من بين أولي الأمر أم من بسطاء القوم وعامة الناس، وإنما هو الى أي مدى تتمتع مجتمعاتنا بالقوة والحضور، وهل هي فاعلة أم خامدة، وهل للناس فيها اعتبار أم لا، اذا كان الرد بالإيجاب فسنرى يوما ما ان واحدا من اولئك الناس قد تصدر قائمة شخصيات العام، أما اذا كان الرد بالسلب، فسيظل المواطن العادي قابعا في الظل، ولن تذكره الصحف إلا اذا ارتكب جريمة، أو غاب عن الحياة وكان بمقدور أهله أن يشيروا إليه في صفحات الوفيات!