أولايات متحدة عالمية

TT

يقوم النظام أو النسق السياسي POLITICAL SYSTEM، دولياً كان أو إقليمياً أو داخلياً، على فكرة محورية معينة تنتظم أجزاءه، وتشكل ذلك الخيط غير المرئي الذي ينتظم حبات العقد، على اختلاف أشكال العقد. ففكرة النظام أو النسق هي أشبه ما تكون بالروح للجسد، وبدون الروح لا يكون هناك جسد، مهما بدت الأجزاء المادية منتظمة. وهذه الفكرة تشكل في النهاية الشرعية الأساسية التي يقوم عليها النظام، والشرعية بالنسبة لأي نظام هي الروح ذاتها. وعلى أساس هذه الفكرة وفي إطارها، تتحرك الدول، في حالة النظام الدولي أو الإقليمي، أو الجماعات في حالة الداخل، حيث أن هذه الفكرة هي من يحدد في النهاية «قواعد اللعبة» التي من خلالها يتم صعود أو هبوط القوى ومدى تأثيرها داخل النظام. كل نظام، من أجل أن يكون نظاماً، لا بد أن تكون له فكرته المحورية الفاعلة، وإلا فإنه لا وجود للنظام وإن بدا الأمر غير ذلك. وأبرز مثال على وجود الفكرة غير الفاعلة هو النظام العربي، حيث أن فكرته المحورية، ووفقاً لميثاق جامعة الدول العربية، هي التكامل العربي في شتى المجالات، ولكن ما يجري على أرض الواقع خلاف ذلك، ونكون هنا بصدد نظام ولا نظام في ذات الوقت، كي لا نقول جسد متكامل الأعضاء ولكن بلا روح. وقد كانت الفكرة المحورية للنظام الدولي، منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 وحتى بداية الحرب العالمية الأولى، هي التعايش السلمي بين القوى العالمية وفق مبدأ توازن القوى، أي قيام سلم عالمي مرتبط بتوازن القوى الرئيسية في النظام، فإذا انهار هذا السلم نتيجة اختلال الميزان، تضافر الجميع لإعادته إلى ما كان عليه، أو مبدأ ما يمكن تسميته بالكل على الواحد.

ومنذ الحرب العالمية الثانية، قام نظام دولي جديد مؤسس على توازن الرعب بين قطبين رئيسيين في النظام، وهو ما أدخل العالم في حرب باردة حتى سقوط حائط برلين عام 1989.

الفكرة المحورية في هذا النظام هي التوازن أيضاً، ولكنه توازن يقوم على نوع من سباق التسلح وتحديد مناطق النفوذ بدقة، من أجل استمرار السلم. ولكن إيفانوف الروسي لم يستطع أن يجاري سام الأميركي في هذا السباق، فسقط أحد القطبين، وبدا أننا ندخل مرحلة دولية جديدة قائمة على قواعد لعبة دولية يحددها طرف واحد هو الولايات المتحدة، وكأن الإمبراطورية الرومانية قد بُعثت من جديد. وبسيطرة الممثل الإيديولوجي لهذه المرحلة في موقع القرار في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر بصفة خاصة، أي اليمين الأميركي الجديد، يمكن القول ان الفكرة المحورية التي يروج لها النظام الدولي الجديد، أو ما هو في طور النشوء والارتقاء، هي فكرة إمكانية قيام سلم عالمي معين على أساس منظومة من القيم الأميركية التي استطاعت أن «تصرع» منظومة القيم السوفيتية المنافسة بالضربة القاضية. وكما قيل في مقالة سابقة، أصبحت أميركا الآن تريد أن تصنع عالماً على شاكلتها، حيث أن هذا هو الضمانة الوحيدة لقيام سلم عالمي واستمراره، وفق قناعة ممثلي المرحلة الجديدة في واشنطن على الأقل، وإذا ما صح تحليل الكاتب هنا على أقل الأقل.

ولكن نظام وستفاليا لم يأت ولم يستقر إلا بعد أنهار من الدماء في مجتمعات أوروبا، ولم يسقط نظام توازن القوى إلا نتيجة أنهار أخرى، وتغيرات فعلية على المسرح السياسي الدولي. ونظام توازن الرعب، أو الثنائية القطبية، لم يسقط إلا بعد أن انهارت اقتصادات عديدة، وتحللت مجتمعات وفيرة، وكانت الدماء أيضاً موجودة في تلك الحروب الساخنة بين أحجار الشطرنج المُحركة من قبل اللاعبين الرئيسيين. والسؤال هنا هو: هل يستقر النظام الجديد، على افتراض الاستقرار، دون دماء وصراعات على خلاف الأنظمة السابقة؟ لا أظن ذلك، بل يبدو أن الأمر ليس كذلك، فكل ولادة لها ألمها، وكل مخاض لا بد أن يكون محاطاً بالدماء من جوانبه، وهذا ما رأينا بعضاً منه في أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحملة على أفغانستان، وما نراه من تمرد البعض على هذا النظام الجديد وقيمه، وما سنرى الكثير منه في تقديري خلال العام القادم في العراق وغيره، تصديقاً للمثل القائل «ما أشبه الليلة بالبارحة». وفي هذا الصدد، يرى هنري كيسنجر أن هنالك اليوم ثلاثة أنماط رئيسية من الأنظمة الإقليمية، كل له فكرته المحورية الخاصة التي كانت تخفيها الحرب الباردة في ظل النظام الدولي القديم أو المنهار، وكلها تعكس جزءاً من التاريخ الأوروبي في هذا المجال: دول أوروبا والمحيط الأطلسي، أو النصف الغربي من الكرة، دول آسيا، والشرق الأوسط وأفريقيا.

بالنسبة لأوروبا ونصف الكرة الغربي، فلن تصادف الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في بناء النظام الدولي الجديد، حيث أن الأرضية القيمية المشتركة (الثقافية والسياسية)، سوف تكون عاملاً رئيساً في عملية التكامل، أو تهدئة الصراع السياسي إن وجد، وستبقى المنافسة الاقتصادية هي المحدد لطبيعة العلاقة بين الطرفين. نعم ستكون المنافسة شديدة في مجالات متعددة، ولكن كل تلك المنافسات سوف تكون محددة ومؤطرة ومحتواة من قبل نظام العولمة الجديد، أي قواعد اللعبة وفق المنظور الأميركي. فأوروبا قد تجاوزت مرحلة الحروب الدينية بعد وستفاليا، في الداخل والخارج معاً، ومرحلة الحروب الإيديولوجية بعد الحرب الثانية، وفي الداخل والخارج أيضاً، وهي اليوم كيان لن يلجأ للحرب لحل معضلاته وإشكالاته. وبالنسبة لآسيا، فهي أشبه ما تكون بأوروبا القرن التاسع عشر، حيث إمكانية الحرب قائمة بين دولها، ولكن قيام سلام إقليمي عن طريق توازن القوى أمر ممكن كما في الحالة الأوروبية آنذاك، ومن السهولة التعامل معها وفق هذا الأساس. أما الشرق الأوسط، وخاصة الشرق الاوسط، فهو، وفق رأي كيسينجر، فما زال أشبه ما يكون بأوروبا القرن السابع عشر: الدين والإيديولوجيا يتحكمان في السياسة تحكماً تاماً، أو لنقل شبه تام، وفي الداخل والخارج معاً. بل يمكن القول، وهذا مما لم يقله كيسنجر، يجمع الشرق الأوسط المعاصر بين أوروبا القرن السابع عشر دينياً، والقرن التاسع عشر إيديولوجياً، وما قبل قرون العصر الحديث ثقافياً، بالإضافة إلى غلاف رقيق من مستجدات العصور الحديثة، ولكن ذلك حديث آخر. الحروب بين دوله ممكنة جداً، والاضطرابات الداخلية القائمة على ذلك الأساس ممكنة كثيراً، فالدين والإيديولوجيا لا يشكلان أساساً مرناً للسياسة المعاصرة، حيث يكون الأخذ والعطاء، أو التسوية COMPROMISE هي عنوان اللعبة. بمعنى آخر، ووفقاً لرأي كيسنجر، فإن الشرق الأوسط لا ينتمي لفلسفة وستفاليا في هذا المجال: «صراعات الشرق الأوسط يمكن أن تُقاس بصراعات أوروبا القرن السابع عشر. فجذورها ليست اقتصادية، كما في حالة منطقة الأطلنطي والنصف الغربي من الكرة الأرضية، أو استراتيجية، كما في آسيا، ولكنها إيديولوجية ودينية، حيث لا تنطبق هنا مبادئ دبلوماسية السلم الويستفالي» Henry Kissinger. Does America Need A Foreign

Policy?: Toward A Diplomacy .( For the 21st Century. New York: Simon& Schuster, 2001. P. 26

من هنا يتبين لنا، وإلى حد كبير، هذا التركيز الأميركي على التغيير الشامل في منطقة الشرق الأوسط بالذات، سواء من ناحية التغيير المحتمل في خريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية، أو من ناحية التغيير في الخريطة الثقافية والسياسية الداخلية. المسألة هنا أبعد من قضية النفط، على أهميتها، وأبعد من الحفاظ على أمن إسرائيل، رغم أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، وأبعد من قضية أسلحة الدمار الشامل في العراق. القضية هنا قضية استراتيجية بعيدة المدى، تتعلق ببناء النظام الدولي الجديد وفق المنظور الأميركي، في منطقة لا زالت وفق تحليل كيسنجر وغير كيسنجر، تنتمي إلى أوروبا ما قبل وستفاليا في علاقاتها وأهدافها ومحركات سلوكها، سواء في الداخل أو الخارج على السواء.

وفق هذه النظرة فقط، يمكن فهم الكثير من الأمور التي قد تستغلق على الذهن، أو لا تجد لها حلاً منطقياً، مثل الانحياز الأميركي المطلق لإسرائيل، أو عدم التعامل مع كوريا الشمالية بمثل تعاملها مع العراق أو إيران أو حتى السعودية. فالإدارة الأميركية، وخاصة في مرحلة ما بعد سبتمبر، ووفق هذا المنظور الشامل، تتعامل مع منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً تلك المنطقة الممتدة من مصر غرباً وحتى افغانستان شرقاً، ومن تركيا شمالاً وحتى اليمن جنوباً، على أنها المنطقة الأكثر اضطراباً في العالم، سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية. فهي، أي تلك المنطقة، لا زالت في حالة تحول دائم، بالإضافة إلى كونها الأكثر تهديداً لاستقرار النظام الدولي الجديد، من حيث تجذر ثقافات معادية للمعاصرة، ومن ثم الغرب وأميركا، في مجتمعات تلك الدول بالتحديد.

وفي هذه المنطقة تقبع إسرائيل، والتي هي ليست مجرد حليف استراتيجي للولايات المتحدة، بقدر ما أنها امتداد وتجسد ثقافي وسياسي للولايات المتحدة في مشرق معاد لتلك الثقافة، وإن كان يمارس الكثير من مظاهرها السطحية. وفي هذه المنطقة يقبع ما يقارب السبعين في المائة من احتياطيات نفط العالم، عصب الحركة في عالم اليوم حتى يتم اكتشاف بديل أكثر عملية. ولذلك فإن السيطرة على هذه المنطقة هو من أولويات تكوين الإمبراطورية الرومانية الجديدة، لا سيطرة عسكرية وحسب، فهذه مسألة قد تكون الأقل أهمية، ولكن ربط هذه المنطقة بالعالم المحيط ثقافياً في المقام الأول، أو حتى إجبارها على المعاصرة، ومن هنا ندرك مغزى وأهمية المشروع الأميركي في «دمقرطة» هذه المنطقة من العالم. كوريا الشمالية تنتمي لمجموعة من الدول قد يعادي بعضها الولايات المتحدة، أو يتمرد على النظام الجديد من منطلقات سياسية في المقام الأول، وهذه أمرها سهل، حيث لعبة توازن القوى هناك، ولعبة تبادل المصالح في كل مكان، كفيلة بترويض من يبدو ترويضه صعباً، ولا أدل على ذلك من الحالة الصينية أو الفيتنامية المعاصرة. ولكن المشكلة في الشرق الأوسط هي أنه دائماً ما تبقى النار تحت الرماد، ويبدو أن الهدف الأميركي الحالي هو قطع دابر تلك النار. ولذلك، وكما يبدو، فإن العام القادم سوف يكون عاماً شرق أوسطي بشكل يكاد يكون كاملاً.. ويتواصل الحديث.