الخيار المصيري العربي الرابع: الديمقراطية؟

TT

منذ ان قررت الادارة الاميركية اعلان حرب مسبقة على النظام العراقي في اطار حربها على الارهاب، تنتاب الفكر السياسي العربي تساؤلات وتشنجات، لم يعرفها هذا الفكر منذ النهضة القومية العربية في مطلع القرن العشرين، أو منذ نكبة فلسطين عام 1948، ويزيد في عمق التساؤلات وسعة تشعباتها مشاركة المفكرين السياسيين الغربيين، من اوروبيين واميركيين في طرحها وتقديم الاجوبة عليها. فمنذ انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج وبالرغم من بعض الازمات الثنائية، كانت الاوضاع السائدة في معظم الدول العربية مستقرة أو هادئة الى حد ما، وكانت العلاقات الاميركية ـ العربية حسنة وايجابية. وبالرغم من تباطؤ عملية السلام كان جزء من فلسطين قد عاد الى أيدي سلطة فلسطينية واعترفت اكثرية دولة العالم بحق الشعب الفلسطيني في دولة وفجأة، تغير كل شيء، قامت الانتفاضة، توقفت محادثات السلام، تصاعد ارهاب الجماعات الاسلامية المتطرفة ليصل الى عملية 11 سبتمبر، احتلت افغانستان وانتشرت القواعد العسكرية الاميركية في بعض دول الخليج ودول شرق أوسطية وآسيوية أخرى وراحت الولايات المتحدة تحشد قواتها لضرب العراق والاطاحة بصدام حسين ونظامه وبدلا من الحديث عن السلام بين العرب والاسرائيليين، اصبح الحديث يدور حول مستقبل العالمين العربي والاسلامي. هل الديمقراطية هي مفتاح التنمية والاستقرار والسلام؟ أم القضاء، أولا على الارهاب؟ وهل يستوعب الاسلام الديمقراطية ام ان الديمقراطية لا تتوافق مع الشريعة الاسلامية؟ هل تبقى خريطة الشرق الاوسط كما ارتسمت في مطلع القرن العشرين على ما هي عليه؟ أم انها سوف تتغير ويعاد رسم الحدود بين الدول أو داخلها؟ أم ان هذه الحدود لن تتغير، بل تغيير بعض الانظمة الحاكمة؟ وما هو التغيير المناسب للشعوب والسلام والافضل للحؤول دون نشوب حرب الحضارات بين الغرب والاسلام: انظمة دكتاتورية تقبض على زمام الامن بشدة في الدول العربية والاسلامية لتوفير الاستقرار ولمقاومة الارهاب أم انظمة ديمقراطية توفر الحريات والتنمية والتعاون الاقتصادي مع الدول الغنية، وتقضي على اسباب الارهاب وجذوره؟

من الواضح ان الرأي العام الاميركي، والغربي عموما، «اكتشف الاسلام» بعد عملية 11 سبتمبر وكانت ردة فعله العفوية الاولى (لا سيما بتحريض ذكي من وسائل الاعلام الاسرائيلية الهوى)، التشنج والعداء للعرب وللمسلمين وتحميل العقيدة الاسلامية مسؤولية الفكر الاصولي والحركات الاسلامية المتطرفة وكان اللجوء الى القوة العسكرية والقمع الأمني، هو الجواب على هذا الاعتداء الفريد من نوعه على الارض الاميركية ولكن مع مرور الوقت والتعمق في دراسة اسباب الارهاب، والاخطاء السياسية المرتكبة بحق العرب والمسلمين، كان لا بد من ان تدخل الى الاستراتيجية الدفاعية الاميركية عناصر واعتبارات اكثر موضوعية وعقلانية سياسية واقتصادية واجتماعية، والا لكان على القوات الاميركية احتلال خمسين دولة اسلامية وتعيين خمسين رئيس دولة، كما فعلت في افغانستان، للقضاء عسكريا وامنيا على الارهاب و هذا غير معقول وغير وارد في هذا العصر.

من هذا فإن الطرح الفكري الاميركي لمشكلة الديمقراطية والحرية والتنمية والمرأة في العالمين العربي والاسلامي الذي ما لبث ان لاقى صداه بين المسؤولين والمفكرين العرب والمسلمين والاسئلة المصيرية التي تطرح اليوم في كل الاوساط السياسية العربية وبين المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين لن تتوقف، سواء نشبت الحرب في العراق أم لم تنشب، سواء بقي صدام حسين في الحكم أم ذهب، ولن تبقى هذه الاسئلة بدون اجوبة ايا كانت تطورات وتداعيات الحرب الاميركية على الارهاب.

ان الولايات المتحدة الاميركية، خلافا لما يعتقده البعض تفضل مواصلة حربها على الارهاب دون اللجوء الى القوة العسكرية والحرب واحتلال العراق، لأن ذلك يكلفها مئات المليارات، ولأنها تدرك ان هذه الوسيلة الامبريالية «لحماية مصالحها»، ترفضها كل الشعوب وتتنافى مع روح العصر والمبادئ التي تدعي الدفاع عنها وتدعو العالم الى اعتناقها ولكن الولايات المتحدة جادة جدا في حماية نفسها من الارهاب بعد 11 سبتمبر، كما انها لا تنتظر من الدول والشعوب العربية والاسلامية التعاون معها في مقاومة الارهاب والارهابيين، فحسب، بل باتت مقتنعة بأن لها دورا اقتصاديا وثقافيا في مساعدة الدول والشعوب العربية والاسلامية في معالجة اسباب الارهاب عند جذوره.

بطبيعة الحال لا تلتقي الرؤية الاميركية لأسباب الارهاب المباشرة أو العميقة مع الرؤية العربية، ولكنها لا تتعارض أو تتنافى كليا معها، الا في نظر غلاة المتطرفين دينيا أو عقائديا أو قوميا، في كلا الجانبين والسر كل السر هو في نجاح واشنطن والعواصم العربية والاسلامية في الوقوف بوجه هؤلاء المتطرفين والراديكاليين، ومنعهم من جر الغرب والعالم الاسلامي الى الصراع والتقاتل.

كثيرون بين المفكرين والباحثين من قالوا، وقبل عملية 11 سبتبمر، ان الحركات والتيارات الدينية الاسلامية الراديكالية التي اندفعت بعد تراجع المد القومي العربي الوحدوي والمد اليساري الثوري، قد بلغت اقصى حدها وطاقاتها للوصول الى الحكم في الدول العربية والاسلامية الهامة. وكثيرون هم الذين باتوا يعتقدون بأن ظاهرة بن لادن والقاعدة وطالبان كانت آخر ارهاصات هذه التيارات والحركات، اذ تحولت الى حركات ارهابية بعد ان شكلت وعدا للأمتين العربية والاسلامية بتحقيق ما لم تستطع الآيديولوجية القومية والاشتراكية الثورية تحقيقه ولكن القضاء على الارهاب الممارس تحت شعارات دينية، وتجنيب الدول العربية والاسلامية نتائج معارك عسكرية واقتصادية ضد الولايات المتحدة افضل ما يكونان على يد العرب والمسلمين انفسهم، لا على يد الاميركيين وباعتماد ديمقراطية عربية او اسلامية، توفر للانسان العربي الحرية والكرامة والعدالة والتنمية.

عندئذ وحينئذ فقط، تصبح اسرائيل عاجزة عن استغلال الرأي العام الاميركي ضد العرب والمسلمين ولا يبقى للارهاب اسباب ولا جذور.