قلق آخر مع فجر عام جديد

TT

استيقظ العالم فجر العام 2003، ليكتشف ان المشاعر التي كانت تسكنه وتسري في عروقه مع غروب شمس العام 2002، ما زالت هي.. هي قلق، قلق، قلق. فالظروف التي خلقتها الادارة الاميركية ونشرتها لتغطي العالم اجمع هي ظروف الخوف والشعور بانعدام الامن، والارهاب الفكري والتلويح، في كل لحظة، بحروب قد تدمر العالم وتقتل الملايين.

ودع العالم عام 2002 واستقبل عام 2003، في جو يمكن ان نطلق عليه تعبير «استباحة الانسان وحريته واستقلاله وسيادته».

اسقطت الادارة الاميركية كل القوانين والمبادئ والقيم، وراحت تبث الرعب في اوساط الاميركيين اولا، وفي جميع انحاء العالم. وتحت شعار الديمقراطية والحضارة الغربية، راحت تنتهك كافة مبادئ الديمقراطية واسس الحضارة.

من هنا استيقظ العالم، كما نام عشية ميلاد جديد، قلقا على مصيره، ومرعوبا مما قد تحمله ايام واسابيع واشهر العام 2003. ويبرز عالم الشرق الاوسط من خضم محيط الخوف والرعب والاستباحة، متميزا على مناطق العالم الاخرى. فالسخونة بلغت مداها في هذه المنطقة التي تعصف بها منذ عقود الصراعات والحروب الدموية والتناقضات وسباق التسلح، واستكلاب القوى الاستعمارية على الهيمنة على نفطها واسواقها وموقعها الجغرافي الاستراتيجي. فالعراق مهدد بحرب لا تبقي ولا تذر، لأن نفطه هو هدف الاستعماريين. وارض العراق مهددة بالتقسيم ليبقى العراق ضعيفا على مدى سنين، ودول الخليج مهددة إما بالزوال او الاضمحلال او التقسيم، ليتسنى للقوى الاستعمارية الهيمنة الكاملة على نفطها. والجزائر مهددة بالتقسيم تحت وطأة القوى «الاصولية» التي ترتكب الجرائم بتخطيط وتمويل من القوى الاستعمارية. والهدف مرة اخرى نفط الجزائر ومعادنها الثمينة وصحراؤها الغنية وموقعها الجغرافي.

هذا العام قد يحمل الى الشرق الاوسط زلازل قد تؤدي الى رحيل اسر كانت مالكة وحاكمة منذ الحرب العالمية الاولى، وقد تؤدي الى انقلابات بعيدة كل البعد عن الديمقراطية التي تتشدق بها الدول الاستعمارية، وتعلن عن برامجها لنشرها في الشرق الاوسط، وقد تؤدي الى انتشار غير محسوب النتائج للفوضى والارهاب وضياع سلطة القانون. كل هذا قد تسببه سياسة الادارة الاميركية الراهنة. وباستطاعتنا القول دون ان نقع في خطأ المبالغة، ان فلسطين هي الساحة الاكثر تأثرا بما يجري وبما سيجري في الشرق الاوسط. لكنها في الوقت ذاته هي الساحة الاكثر مناعة، بين كل ساحات الشرق الاوسط، في مواجهة هذه الاستباحة الاميركية لكل المبادئ والقوانين والاعراف، وخاصة مبادئ الديمقراطية والحرية وحق تقرير المصير.

استيقظ الفلسطيني، في بداية العام الجديد، كما ودع العام الذي غاب: عدوان اسرائيلي مستمر، تدمير المنازل، قتل المدنيين، اعتقال العشرات لا لسبب سوى كونهم فلسطينيين، وعلى اجتماع لشارون ونتنياهو وموفاز ليقرروا صرف او عدم صرف اموال الفلسطينيين (او جزء منها) المحتجزة لديهم (ضمن شريعة الغاب اي الاستباحة). لكن ما يشعر به الفلسطيني متميز عما يشعر به الآخرون في الشرق الاوسط (بمن فيهم الاسرائيليون) وقد تبدو هذه المعادلة غريبة لأنها تحمل في طياتها متناقضات. فالى جانب الجوع والحصار والتدمير والشعور بالقلق، وبان اللحظات القادمة قد تحمل دبابة اسرائيلية تطلق قذائفها على الحي، او مجموعة من القوات الاسرائيلية الغازية، تقتحم بيتا لتقتل طفلا وتعتقل شابا يعاد الى بيته بعد ساعتين جثة هامدة نتيجة الضرب، (كما حصل للشاب عمران عبد الغني حمدية ليلة رأس السنة في الخليل وعمره 18 عاما)، الى جانب كل هذا يشعر الفلسطيني بأن حائط الخوف والرعب قد هدمه بصلابة موقفه ومقاومته للاحتلال وصموده على ارضه. صمود يشمل الشعب بأسره، ابتداء من الرئيس ياسر عرفات، الذي مضى على حصاره داخل مكتبه المدمر بقذائف الدبابات اكثر من عام، وصولا الى اطفال مدرسة الكفيفين التي تعرضت لقصف الدبابات الاسرائيلية مؤخرا.

ومع بزوغ فجر العام 2003، قد يسأل بعض الذين تعبوا من الاحداث الدامية التي شهدتها فلسطين على مدى الاعوام الماضية، ماذا حققت الانتفاضة؟ بدون تردد نجيب على السؤال بأن طرحه خطأ. فالانتفاضة لم تكن مبادرة من الفلسطينيين ولم يخطط احد لشنها. وان السؤال الذي يجب ان يطرح هو «ماذا حقق شارون من خلال عدوانه الهمجي الذي لم يسبق للتاريخ ان شهد مثله»، حتى من اكثر الانظمة فاشية في العهود الغابرة.

فشل شارون في تحقيق ما رسمه وخطط له. فالشعب الفلسطيني وقيادته يرفضون الرضوخ لمخططاته ويبدون كل يوم صلابة وصمودا ومناعة اكبر. من هنا فإن فجر العام 2003 يجعل الفلسطيني اكثر تفاؤلا واكثر اصرارا على نيل حقوقه... وذلك لأنه يطرح سؤالا آخر: وماذا بعد؟

لقد قتل شارون الآلاف، وجرح عشرات الآلاف، واعتقل الآلاف، واقتلع الشجرة، ودمر البيوت والمدارس والمستشفيات، وابقى الفلسطينيين تحت الاحتلال وتحت رحمة فوهة الدبابة التي تطلق على اطفال يقذفونها بحجارة ليست اكبر حجما من قبضات ايديهم الصغيرة، قذائف لتقتلهم وتجرحهم.

ماذا بعد؟

لم يستطع شارون وجيشه ودباباته وطائراته ان يدفع الشعب الفلسطيني الى الرضوخ، لأنه يطالب بالحرية والاستقلال والحق والشرعية الدولية. وهو لن يرضخ مهما استخدم شارون من جبروت القوة العسكرية وارهاب الدولة المنظم.

سؤال الفلسطينيين ماذا بعد، يحمل في طياته تحديا لشارون مشبعا بالصمود، والاصرار على نيل الحرية وفي الوقت ذاته يحمل مطالبة للمجتمع الدولي بأن يحرك ضميره ويرسل قوات دولية لتحل محل قوات الاحتلال الاسرائيلي وتتولى رعاية مفاوضات سلمية تؤدي الى حل سياسي يضمن امن اسرائيل واستقلال الفلسطينيين. هذه هي دعوة الفلسطينيين للعالم مع بزوغ عام 2003. الشعب الفلسطيني يناشد المجتمع الدولي ارسال قواته ومراقبيه ليتولوا المهمات التالية:

ـ وقف اطلاق النار، على ان يبدأ قبل الانتخابات الاسرائيلية وقبل المؤتمر المزمع عقده في لندن حول خريطة الطريق.

ـ انسحاب القوات الاسرائيلية لتحل محلها قوات دولية مما يتيح للفلسطينيين اجراء انتخابات حرة ونزيهة (رئاسية تشريعية وبلدية).

ـ رعاية مفاوضات مكثفة لتطبيق رؤية الرئيس بوش في اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة (والتي اعلن السناتور جوزف ليبرمان قناعته التامة بها بعد ان زار المنطقة). والمستندة للقرارين 242 و338 والمبادرة العربية للسلام (مبادرة الامير عبد الله). هذا ما يطالب به الفلسطينيون مع بداية العام 2003. وسيستمرون في الصمود ومقاومة الاحتلال مهما كانت الظروف الى ان يتحقق الحلم وينتزعوا الحرية والاستقلال. وهذه الامور ممكنة، إن تخلت الادارة الاميركية عن انحيازها الاعمى لشارون وحكومته اليمينية. فالفلسطينيون يعملون جاهدين لانجاز اتفاق يتيح للسلطة الوطنية ان تطرح رسميا مشروعا لوقف اطلاق النار ان قدمت الادارة الاميركية ضمانات لمصر بأن مثل هذا الاعلان سوف يستقبل بوقف العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني. وتؤكد المعلومات التي وصلتني، بأن هذا المشروع قد يكون جاهزا في الاسبوع الاول من هذا العام اي قبل انعقاد مؤتمر لندن حول «خريطة الطريق». كذلك فإن الفلسطينيين انجزوا مشروع الدستور، وسيناقشونه ليقر تشريعيا وليكون جاهزا للتطبيق مع اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا يعني ان مؤتمر لندن الذي اعلن رئيس الوزراء توني بلير انه سيناقش «الامن والاصلاحات» سوف يضطر لمناقشة جوهر المسألة: اي الانسحاب الاسرائيلي وتطبيق القرارات الدولية واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

الفلسطينيون يبذلون قصارى الجهد لتقريب المسافات وهم يعلمون ان شارون طلب من الرئيس بوش تأجيل البحث في «خريطة الطريق» لما بعد الانتخابات الاسرائيلية. وقد وافق بوش على ذلك رغم معارضة الاوروبيين والروس والامم المتحدة.

والفلسطينيون يعلمون ان شارون سيطلب من بوش التأجيل مرة اخرى لما بعد تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة.

الى متى يستمر شارون في تأمين انحياز الادارة الاميركية لمواقفه العدوانية؟ اليس من ثقل عربي لمنع الاستمرار في هذا الانحياز.. على الاقل لجهة عدم تأجيل المفاوضات فقط؟

الفلسطينيون لا يقفون على قارعة الطريق يراقبون ما يجري بدون ان يحركوا ساكنا، فهم يصنعون الاحداث وسيستمرون في صياغتها بدمهم وصمودهم، لكنهم يعلمون ان الواجهة والصمود يتطلبان موقفا عربيا داعما معنويا وسياسيا وماديا، اذ لا يعقل ان تستمر المواقف العربية مذهولة ومشلولة الى هذا الحد. ولا بد من التحرك والتحريك وهذا ابسط الايمان.