المعايير اللبنانية للتغييرات الوزارية!

TT

بين الأزرق الممتد نزولاً حتى الأفق البحري والأبيض المتراكم صعودًا حتى السماء، وقف رفيق الحريري في عطلته الثلجية في فقرا، متأملاً بالتأكيد في ما آلت اليه قصة الحكومة، التي كانت قد تجاوزت كل المشاغل الاقليمية والقضايا الدولية الداهمة، قياسًا بتصريحات بعض السياسيين اللبنانيين ومواقفهم.

والحديث عن تغيير الحكومات في لبنان ليس شيئاً جديدًا، انه دائمًا من حواضر السياسة. وعندما تكون السياسة لبنانية، تصبح ضرورات التغيير الحكومي، مرتبطة في نظر الكثيرين بـ«التبادلية» لا بطريقة عمل الحكومة او بما تنجزه وتقدمه. ربما يرتبط هذا بميل فطري لبناني إلى التغيير، مع ان التغيير يتنافى مع الوراثة السياسية واحتكارية التمثيل العام في بيوت كثيرة، لكننا نتحدث هنا عن ميل السياسيين إلى التغيير الحكومي تحديداً من منطلق التوق إلى «التبادلية».

لا يجوز أن نشبّه الأمر بـ«سباق البدل» الذي يتعاقب فيه المتسابقون على الركض بعد التقاط العصا، لأن المطلوب عمليًا هو الإمساك بهذه «العصا»، أما الركض فمسألة ثانية. ولهذا تكاد بعض الأصوات التي ارتفعت في الأيام الأخيرة معلنة موت الحكومة اللبنانية الراهنة، ان تعكس انعدام قدرة هذا البعض على الصبر، حتى ليكاد ان يصرخ: متى تقومون فنجلس نحن الواقفون في الانتظار؟

لا بد من أن تكون أفكار تتصل بهذا الواقع السياسي، قد حامت في رأس رفيق الحريري، وهو واقف على شرفة قصره في فقرا في عطلة الأعياد. فالرجل لا ينظر إلى المطالبات المتزايدة بتغيير الحكومة من زاوية المرارة، ربما لأنه يعرف ضمنًا، ان بعض الوزراء الذين حملتهم رياح معينة إلى الحكومة الحالية، يجب أن يذهبوا إلى «الاستراحة»، أو ربما لأنه متيقّن من أن أنماط التعامل وأساليب التصرّف داخل «الأسرة الحكومية»، كانت قد بُنيت على افتراضات او استنتاجات خاطئة في حقبة «الحروب الرئاسية» العاتية، وان الزمن تغيَّر بينه وبين رئيس الجمهورية، لكن بعض الافتراضات لم يتغير، ولهذا فهو لا يعارض من حيث المبدأ على الأقل، عملية تعيد بناء الحكومة بصيغة أكثر تآلفًا وتماسكًا.

لكن رفيق الحريري يدرك ان ما يتراءى له من صيغ حكومية، قد لا يكون سهل التحقيق لأسباب كثيرة، أهمها بالطبع ان الحكمة تنصح بعدم تغيير الأحصنة وسط السباق، فكيف إذا كان هذا السباق يجري على فوهة بركان متفجّر، يمتد من فلسطين المحتلة والغارقة في التهديد الإسرائيلي إلى العراق الغارق في التهديد الأميركي، مرورًا طبعًا بجنوب لبنان، الذي تحاول تل أبيب أن تصوّره «مجمعاً دولياً للارهاب»؟

لا داعي بالطبع إلى التوقف كثيرًا عند كلمة أحصنة، فليس هناك في لبنان من لا يعرف انه شتان ما بين الخيول، وبعض الوزراء الذين جاءوا من مرابط لا تحسن الجري ولا تملك القوة ولا علاقة لها بالفروسية والفرسان، لكن الذين تجرهم القاطرة الحكومية من بعض أصحاب المعالي، كانوا دائمًا من المرامح الضعيفة في التشكيلات الوزارية، على الأقل منذ بداية ما سُمي السلم الأهلي، وليس هناك ما يؤكد الآن ان هذه الملامح انتهت أو قد تنتهي قريبًا.

وما يشكل بالنسبة إلى اللبنانيين أمرًا عاديًا، قد يشكل بالنسبة إلى الرأي في الدول الأخرى، أمرًا في غاية الغرابة، وفي كلام واضح ان المطالبات بتغيير الحكومة في لبنان هذه الأيام تنطلق من حسابات ومراهنات وسياسات لا يجمع بينها أي رابط محوري على الصعيد الوطني، او السياسي، في حين ان استقالة الحكومات او إقالتها وتشكيل غيرها في الديموقراطيات المعافاة، انما يأتي كاستحقاقات تمليها ظروف وطنية مستجدة، او مهمات طارئة تتطلب خبرات جديدة تمسك بالسلطة التنفيذية وتدير أمور البلاد بأسلوب أفضل.

طبعًا نحن نحرص على التوضيح ان هذا الكلام، لا يشكل أي لون من ألوان الدفاع عن الحكومة الراهنة، التي وصلت الأمور ببعض أعضائها، إلى الانخراط في شن الهجمات عليها رغم ان في وسعه الاستقالة مثلاً، إذا كان يملك الحد الأدنى من الانسجام مع النفس. ليس هناك ما يستدعي الدفاع عن حكومة جاءت على أساس توافقي في الكوتات والحصص تمت تحت مظلة القبول السوري، ولكن ليس هناك ما يستدعي في الواقع حفر القبور لهذه الحكومة لأسباب كثيرة أهمها:

أولاً: ان هذه الحكومة عكفت على تنفيذ مجموعة واسعة من الاجراءات والخطط بهدف معالجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد، وان وزراء الاقتصاد والمال والحلول المتّصلة بهذا الشأن أدرى وأفضل من غيرهم في سياق هذه المعالجات.

ثانيًا: ان هذه الحكومة هي التي واكبت التحضير لانعقاد مؤتمر «باريس ـ 2» وهي التي ساهمت في انجاح هذا المؤتمر طبعًا عبر رئيسها رفيق الحريري وطاقمه الوزاري الاقتصادي، وهذا يعني ان الحد الأدنى من المنطق واحترام الاستمرارية في رؤية السلطة التنفيذية، يفرضان بقاء هذا الطاقم في أي حكومة جديدة.

ومثل هذا الأمر، يفضي بالطبع إلى بقاء مجموعة أخرى من الوزراء الذين قد يرغب رئيس الجمهورية في أن يواصلوا عملهم في أي حكومة جديدة، وهو ما يطرح سؤالاً جوهريًا: هل يمكن بعد هذا الحديث عن تغيير حكومي، أم أن هذا المنطق يجعلنا أقرب إلى التعديل الحكومي؟

ثالثًا: ان الحديث عن تغيير الحكومة يقترن بكلام خشبي يخلو من أي معنى موضوعي، فالمطالبة بحكومة جديدة «تضم الطاقات والقدرات والدمغة، وتتلاءم مع التحديات التي تمليها الاستحقاقات الاقليمية»، من فلسطين إلى العراق مرورًا طبعًا بجنوب لبنان، قد توحي بأن لدينا مخزونًا سريًا من هذه الطاقات والقدرات والأدمغة، لكننا نعرف تمامًا ان الإناء السياسي الراهن لا ينضح إلاّ بما فيه كما يقال، وهذا العجين الحكومي من هذا المعجن السياسي.

طبعًا ان هذا لا يعني افتقار لبنان إلى الأدمغة والكفاءات، ولكن المسموح لهم بالوصول إلى الوزارة او النيابة او المراكز المتصلة بالتمثيل العام وصنع القرار، يجب أن يأتوا من مناخ يفرض في الغالب مجيء العجين، إياه متكررًا ومعادًا ولو اختلفت الوجوه أحيانًا.

رابعًا: إذا كانت زوبعة المطالبات بتغيير الحكومة، قد تأججت أكثر وأكثر في ظل هامش التفاهم المتّسع بين إميل لحود ورفيق الحريري، وهو الهامش الذي كان مفقودًا في السابق ثم توافر بعد ما سمّي «غسل القلوب» الرئاسية، على اعتبار ان تفاهم الرئيسين يختزل الحكومة الحالية، فمن يضمن ان لا يكون الاختزال أيضًا عنوان الحكومة الجديدة؟ ان الجواب عن هذا السؤال لا يتصل فقط بالعلاقة بين الرئيسين ولا بنوع الوزراء في الحكومات، بل بطبيعة الممارسة السياسية وباحترام الدستور، الذي ينص صراحة على ان مجلس الوزراء مجتمعًا، (مع التشديد على كلمة مجتمعًا) هو الذي يشكل مركز القرار السياسي على المستوى الوطني.

والسؤال الآن، هل يمكن للحكومة الجديدة ان تعيد هذا القرار إلى مكانه الصحيح؟

خامسًا: كيف يمكن الحديث عن التغيير الحكومي وسط التهديدات الإسرائيلية المتزايدة التي تتخذ شكل اعلان حرب يومي على لبنان؟

لو كانت أي حكومة جديدة ستوفر عناصر حماية أفضل ومواجهة أشد ودراية أقوى وأعمق في وجه آرييل شارون، لكان من الضروري تغيير الحكومة الراهنة فورًا.

سادسًا: مع اقتراب «العد العكسي» للحرب على العراق وما يمكن ان تخلفه من تداعيات على المستوى الإقليمي وخصوصًا اللبناني، لا ندري كيف يمكن الاستغراق في الجدال حول تغيير الحكومة، وهو أمر تفصيلي جدًا، لا بل أنه هامشي قياسًا بالبدائل المحتملة، التي ستأتي من القماشة السياسية عينها.

يقولون ان رفيق الحريري ليس رجل أرقام فحسب بل انه مثل كل الجنوبيين ناسج جيد للأحلام وقارئ شغوف للقصائد وربما ناظم لها في سرّه المكنون. لكنه بين الأزرق والأبيض في فقرا، يكتشف ان الهموم الحكومية، يمكن ان تتسلق الروابي وان تلغي عطلة الأعياد وان تمنع حتى الاستمتاع بالسكينة.

لكن السؤال الذي ظل ماثلاً في ذهنه: كيف يمكن صنع خبز جيد من عجين سيئ ومتى يصير مسموحًا مجيء «الأحصنة» إلى الحكومات؟!