آخر القمصان الألمانية

TT

عشية عيد الميلاد، في الشارع التجاري الفاصل بين ساحة «مارين» وساحة «شتاخوس» بقلب العاصمة البافارية ميونيخ، تجمع اكثر من اربعين من النساء والرجال ورفعوا لافتات سجلوا عليها المتاعب الكبيرة، التي يعانون منها بسبب الازمة الاقتصادية التي تمر بها المانيا راهنا. وبرغم البرد الشديد فإن واحدا منهم كان يرتدي قميصا اسود. وعلى لافتته كتب يقول: «هذا القميص الذي ارتديه هو الاخير. فهل تريدون ان تسلبوه مني هو ايضا؟!» وقد علق الصديق التونسي الذي كان يرافقني في تلك الجولة المسائية على تلك التظاهرة الصغيرة قائلا: «يحدث هذا في اغنى مدينة بغرب المانيا (يعني ميونيخ..).. ترى ماذا يحدث في مدن القسم الشرقي حيث ملايين العاطلين عن العمل؟!».

والحقيقة ان قلق الالمان تجاه المستقبل شهد خلال العام المنصرم تصاعدا متزايدا لم يسبق له مثيل منذ الحرب الكونية الثانية. والسؤال الذي اصبح يتردد على ألسنة الكثيرين من رجال السياسة والاقتصاد في العالم بأسره هو: ما الذي حصل لالمانيا عملاقة الاقتصاد الاوروبي والتي كانت تخيف جيرانها بديناميكية وفاعلية نموها الاقتصادي؟

ويستمد السؤال المذكور شرعيته من الارقام المفزعة التي اعلنت عنها الحكومة الالمانية رسميا، والتي تقول ان عدد العاطلين عن العمل تجاوز الاربعة ملايين، وان المبالغ المالية الهائلة التي رصدت لتطوير القسم الشرقي من البلاد، الذي كان خاضعا للحكم الشيوعي لم تحقق النتائج المرجوة، وان عددا كبيرا من المؤسسات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، التي كانت مفخرة الاقتصاد الالماني انهارت او هي مهددة بالانهيار، وان صناديق الضمان الاجتماعي لم تعد قادرة على الدفع.. الخ.

وقد بدأت بوادر الازمة الاقتصادية التي تعيشها المانيا راهنا عند تحقق الوحدة بين شطري البلاد مطلع التسعينات. حينذاك اعلن المستشار السابق هلموت كول بحماس وطني فياض، انه سيحول القسم الشرقي الى «منطقة زاهرة». ومنذ ذلك الوقت تخصص الحكومة الالمانية بين 70 و90 مليارا من اليورو لتفادي الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد ما كان يسمى سابقا بـ «المانيا الشرقية». ومع ذلك، لم تتحقق النتائج المرجوة، وراحت اعداد العاطلين عن العمل تشهد ارتفاعا مهولا يوما بعد يوم، او باتت نسبة عالية من الالمان الشرقيين تتحسر على الفترة الشيوعية. وعلى مدى ثمانية اعوام، لم تتمكن حكومة المستشار السابق هلموت من تحقيق الاصلاحات التي وعدت بها.

وعندما نجح الاشتراكيون الديمقراطيون بزعامة جيرهارد شرودر وحلفاؤهم الخضر بزعامة يوشكا فيشر في الوصول الى السلطة عام 1998، وعدوا بتحقيق الاصلاحات المرجوة. وبالفعل حاولوا التوصل الى ذلك، غير انهم اصطدموا بعقبات جسيمة اوقفتهم في منتصف الطريق. ورغم ذلك تمكنوا خلال انتخابات خريف 2002 التي خاضوها بصعوبة كبيرة، بسبب تفاقم الازمة الاقتصادية، من الحفاظ على السلطة. ولم تدم فرحتهم بذلك كثيرا، اذ سرعان ما وجدوا انفسهم امام تحديات جديدة تنذر باندلاع عواصف اجتماعية هوجاء، وتهددهم بعدم البقاء في الحكم. وخلال الاسابيع الاخيرة من العام المنصرم. انفجرت الخلافات داخل الاشتراكيين الديمقراطيين انفسهم. وقال فرانز مونتافيرينغ، الناطق باسم المجموعة البرلمانية الاشتراكية الديمقراطية، والمعروف بولائه التام للمستشار جيرهارد شرودر، بأنه يتعين على الحزب الاشتراكي الديمقراطي ان يحدد مستقبلا الوجهة التي ينوي اتباعها. ومعبرا عن استيائه من ادارة الاشتراكيين الديمقراطيين للازمة الاقتصادية الحالية التي تتخبط فيها المانيا، صرح الاشتراكي الآخر سيغمار غابرييل قائلا: «في الحقيقة انا لست راضيا عن ما رأيته شخصيا خلال الاسابيع الماضية».

وامام هذه الانتقادات الموجهة اليه من داخل حزبه، بدأ المستشار جيرهارد شرودر يشعر بالعزلة. وراحت بعض وسائل الاعلام تروج بأنه يستعد للاستقالة من منصبه. غير ان المستشار قال امام الصحافيين مطلع ديسمبر/ كانون الاول الماضي، بانه لن يتخلى عن قيادة السفينة. ثم اضاف قائلا: «كل الذين يبنون آمالهم على رحيلي عن السلطة مخطئون». وقد ازداد غضب الاشتراكيين الديمقراطيين عندما صرح زعيمهم بأنه هو الذي انتصر في الانتخابات، وليس الحزب. ومعلقاً على ذلك، قال سيغمار غابرييل: «من المؤكد ان شرودر ليس ديكتاتورا، غير اننا نشعر احيانا انه يمكن ان يكون كذلك».

ولم تكن وسائل الاعلام رحيمة بجيرهارد شرودر. فقد كتبت صحيفة «الموديتشه تزايتونغ» تقول بأنه ـ اي شرودر ـ فقد كل سلطة. وقالت صحيفة «هانسبلات»: «شرودر يهدد انصار حزبه لكن لا احد منهم يستمع اليه». واما «دير شبيغل» الاسبوعية الواسعة الانتشار، فقد كانت الاكثر قسوة، حيث كتبت في تعليق لها تقول: «ان المستشار شرودر يتكلم كما لو انه قائد سفينة متشبث بعناد بمنصب لا مستقبل له».

والشيء المؤكد ان المستشار جيرهارد شرودر وحزبه وايضا حلفاءه الخضر، استقبلوا عام 2003 بقلوب واجفة ذلك انه سيكون عسيرا بالنسبة لهم، خصوصا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، حيث انهم سيكونون مطالبين بأن يثبتوا بأنهم قادرون حقا على انقاذ المانيا من الازمة الخانقة التي تتخبط فيها راهنا، والتي تهدد بتحويلها الى بلد ثانوي داخل الاتحاد الاوروبي.