عام الانقلاب الثقافي

TT

عام 2002 كان حاسما في تغيير صورة العالم في اذهان المثقفين والرجل العادي على السواء، فعلى الرغم من أن ثقافة القوة والغلبة كانت هي المحرك الاساسي للسياسات طوال الحرب الباردة، الا ان الاحاديث عن السلام ومنظمة الأمم المتحدة كانت تنمو وتزدهر وتؤثر على الحكومات، خاصة القوى الكبرى.

حقا ان العالم بعد الحرب العالمية الثانية جرى تقسيمه حسب توازن القوى بين المعسكرين الغربي والشرقي، أي بين العالم الرأسمالي الليبرالي وبين العالم الاشتراكي، ولكن «المبادئ الانسانية» كانت تتسرب هنا وهناك، ربما بسبب الصراع بين النظامين اللذين كانا يعطيان فرصة للفكر السلامي ومرادفاته كنوع من تجنب المصادمة المباشرة او غير المباشرة، وطوال النصف الثاني من القرن العشرين ازدهرت افكار جديدة بدأت تخلع الانحيازات الآيديولوجية وتعيد النظر في الكثير من المقولات الشائعة في الفكر الليبرالي وفي الفكر الاشتراكي على السواء، وفي الربع الاخير من القرن العشرين، اصبحت «الآيديولوجية» مرادفة للجمود ومقيدة لحرية التفكير والتعامل مع المشكلات.

وشيئا فشيئا راحت المصطلحات الجارية تتوارى مثل الصراع الطبقي او الاقتصاد الموجه والاقتصاد الموجه والاقتصاد الحر، وتصدرت قضية حقوق الانسان، التي كان من ابرزها حق المواطن في ان ترتب له الحكومة عملا وان ترعى صحته وان تقوم على تعليمه، وبالفعل نشطت الحكومات حتى في المعسكر الليبرالي في اصدار القوانين التي ترتب هذه الحقوق لمواطنيها وكذلك الامر بالنسبة للحريات الاخرى، كحرية الاعتقاد وحرية التعبير وحرية التفكير، وبدأت هذه الحركة الخارجة على الآيديلوجيتين المتصارعتين، تتسع مع تلاحق التغييرات التكنولوجية والعلمية وآثارها على المجتمع، ومع مرور الوقت كان دور الأمم المتحدة يقوى، وكانت القوى الكبرى في المجتمع الدولي الثنائي القطبية مضطرة الى تقوية المؤسسة الدولية واللجوء اليها عند نشوء المنازعات وكان حق «الفيتو» او الاعتراض المعطى للدول الخمس الكبرى ـ على الرغم من تناقضه مع الديمقراطية ـ يقوم بضبط ايقاع الصدامات، ويشكل نوعا من التوازن بين النظامين.

وبالطبع لعب الردع النووي دورا في تأجيل او ابعاد الحرب الساخنة، لكنه لم يمنع الحرب الباردة، وظل الاستقطاب يلعب دوره، وان حاولت حركة عدم الانحياز الافلات من ضغوطه، على ان صورة المستقبل في عقول الناس العاديين كانت افضل منها الآن، وكانت حركات التحرر الوطني قد نجحت في الكثير من المواقع التي كان الاستعمار القديم يسيطر عليها وفيما عدا الانسلاخات التي حدثت في مواقع متعددة الصين «هونغ كونغ ثم تايلاند» والهند «الباكستان والهند» كانت اسرائيل هي الحدث المنفرد الذي زرع زرعا في المنطقة تحت دعاوى دينية وعرقية والذي قام على استجلاب مواطنيها من خارج أراضيها.

حقا ان الحروب لم تتوقف بين الشعوب المختلفة، ولكن القوتين الكبريين راحتا تتحاربان عن طريق الشعوب الاخرى مثل حرب اميركا في فيتنام وحرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، دعك من الصراعات الاخرى التي اشتركت فيها كل من القوتين العظميين عن طريق الدعم والتحريض، وكانت النتيجة على أية حال، نفور الرجل العادي من هذه الحروب مما أدى أحيانا الى تظاهرات ضد الحرب في أميركا مثلا اثناء حرب فيتنام وفي روسيا اثناء حربها في أفغانستان.

كل هذا ساعد على نمو فكر السلام وفكر الخدمات الاجتماعية والاحتكام الدولي وان لم يقض نهائيا على فكر القوة والغلبة، الذي كان يدور في الخفاء في شكل «سباق التسلح» والمنازعات الآيديولوجية التي استخدمت فيها الافكار والنظريات العلمية الموضوعية استخدامات سياسية مغرضة، فضلا عن الفكر الدعائي غير العلمي وغير الموضوعي، والضغوط الاقتصادية والاختراقات المختلفة على الجانبين، وفي النهاية انهار العالم الثنائي القطبية، وانتهت هذه الفترة تماما، وتغير وجه العالم الذي كان يحكمه توازن القوة بين المعسكرين قبل ان تنضج الافكار الجديدة الخارجة على الآيديولوجية والتي كانت تترك ـ احيانا ـ عمدا، لتجنب صراع فكري او سياسي هنا او هناك.

وبانفراد الولايات المتحدة كقوة مهيمنة وحيدة تغيرت بالتالي الاسباب والدوافع التي كانت وراء فكر السلام، وعلى العكس من ذلك اصبحت «القوة» هي مصدر كل الحقوق، وهكذا بدأ نوع جديد من سباق التسلح اذ تضاعفت ميزانيات الدفاع في الولايات المتحدة عدة مرات بحيث قيل انها تزيد على ميرانيات الدفاع في دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة ومن الطبيعي ان نتوقع ردود فعل من جانب الدول الاخرى كالصين وربما الهند وروسيا الاتحادية فضلا عن دول الاتحاد الأوروبي ذاتها، وبصرف النظر عن النتائج المحتملة في مجال القوة العسكرية او الاقتصادية، فإن الفكر هو الذي اصيب بشيء من النكسة ما زالت تتزايد، تتجلى مظاهرها في تفاقم الاحاسيس العنصرية وكراهية الاجانب وازدراء الحضارات الاخرى بل والرغبة في قمع الآخرين وتغيير اوضاعهم بالقوة

وكان عام 2002 مقدمة صارخة لهذه الاتجاهات الجديدة المناقضة لأفكار السلام والأخوة البشرية والعدل بين البشر، ففيه ضربت أفغانستان بعنف بالغ مع ان التحولات التي حدثت في هذا البلد كانت الولايات المتحدة المسؤول الأول عنها اثناء المواجهة مع الاتحاد السوفياتي السابق، وهكذا الامر بالنسبة لمواقع عديدة ومنها فكر العنف والارهاب الذي جرت اجتهادات غير دقيقة لاستنباطه من فكر عصور التدهور في بعض المجتمعات الاسلامية، وألصق عمدا بالاسلام، ومع ان الاجهزة الأميركية هي التي شجعت هذا النوع من التفكير واستخدمته لاغراضها السياسية، الا انها هي ذاتها تزعم انه فكر يعكس الاسلام. وفي ظل مظاهرات العنف التي تندفع من قلب المجتمع الأميركي وبعض المجتمعات الغربية، جرى تعميم وقولبة معلومة تقول بأن الاسلام دين محرض للارهاب، وبدلا من معالجة هذا الخطأ راحت حملات متعددة للنفخ في هذه المقولة العدائية وتحويلها الى اعتقاد شعبي تحريضي في ظله تتحرك القوى السياسية الموغلة في تمثيل الفكر المتطرف الذي يعتمد القوة اساسا لتقرير الحقوق.

في سنة 2002 أول ما اصيب بالضرر هو المنظمة الدولية ونظرية الاحتكام والالتجاء الى القانون الدولي، ومع ان تجاوز المنظمة امكن التخفيف من جهارته وعلانيته بسبب قلق الكثير من الدول واضطرار الولايات المتحدة الى احترام الشكلية وطلب رخصة من المنظمة لضرب العراق، الا ان تجليات الرئيس الأميركي المتكررة امام الرأي العام العالمي راحت تؤكد حقيقة ان الولايات المتحدة هي التي تقرر وليست المنظمة الدولية، ومن الواضح ان الضغوط التي تقوم بها الادارة الأميركية على الدول من القوة والتأثير بحيث لم تستطع اغلبها مقاومتها وعدم الخضوع لها.

والواقع ان ثقافة القوة والغلبة يتم النفخ فيها داخل الولايات المتحدة لتصبح ثقافة غالبة ويبدو ان هذه الثقافة تجد صدى لدى الشعب الأميركي، فهي تؤكد له القوة والغلبة وتعده بالاستحواذ على خيرات العالم . وهي في نفس الوقت الثقافة التي تعطي بقيام الدولة الاسرائيلية في قلب فلسطين العربية شرعية تستند الى الغزو العسكري باعتباره مصدر الحق، فالى الآن تبدو شرعية الدولة الاسرائيلية مشكوكا فيها، وقد انعكس هذا المفهوم على وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد الذي قال بتلقائية طبيعية ان الاراضي التي تحتلها اسرائىل تعتبر من حقها بحكم الغزو العسكري.

ويبدو ان هذه الثقافة تزداد تصعيدا فمن الواضح ان اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة نجح في حصد اجزاء عريضة من الشعب الأميركي وممثليه في البرلمان على تصفيه الوضع في الشرق الأوسط بشكل نهائي لصالح هيمنة اسرائيلية فالحملة على العراق تهدف بطبيعة الحال الى السيطرة على ثاني اكبر مخزون بترولي في العالم ، ولكنها في نفس الوقت تقصد الى انهاء الوضع القلق لاسرائيل في العالم العربي، وذلك باعادة ترتيب المنطقة بما يكفل ذلك.

ومن يتأمل احداث سنة 2002 وبصفة خاصة طريقة التعامل الفظة مع الفلسطينيين، بل مع الدول العربية الصديقة كمصر والسعودية يجد ان الهدف الاساسي والذي لا يتحدث عنه أحد بشكل صريح هو تثبيت اسرائيل وتحوير العالم العربي ـ قهرا ـ بحيث يقبل بشكل نهائي بتميز اسرائيل ودورها كالقوة المركزية الوحيدة في المنطقة. ومثل هذا الهدف البالغ الغرابة والمجافي للمفاهيم الثقافية التي سادت العالم طوال الخمسين سنة الماضية لا يمكن تقبله دون العودة الى ثقافة القوة والغلبة، باعتبارها الثقافة الواقعة التي انحرفت عنها الافكار الرومانسية والخيالية السابقة.

ومهما تكن جذور مشاكل الشرق الأوسط واضطراب المفاهيم بل والاختراقات المغرضة المختلفة فانه من الواضح ان الولايات المتحدة تقصد استعمال القوة العسكرية لكسب الهيمنة لاسرائيل على المنطقة، فهي لا تكاد تتحدث عن المبادرة السعودية التي وافقت عليها الدول العربية مجتمعة في اجتماع قمة للجامعة العربية في هذا العالم العجيب المشحون بالتقلبات، والتي توفر السلام للجميع لاسرائيل والدول العربية.

ومع ان الولايات المتحدة هي المسؤول الأول عن تدهور الاوضاع في الشرق الأوسط طوال الحرب الباردة، الا انها تتجاهل هذه الحقيقة التي بدأت بعض الاقلام الحرة في أميركا تميط اللثام عنها، مثل تعامل وزير الدفاع الأميركي الحالي رامسفيلد مع الرئيس صدام حسين وتزويده بالاسلحة في حربه مع ايران، بالكشف عن الوثائق ومحاضر جلسات الاجتماعات التي عقدها الوزير الامريكي وخبراؤه العسكريون مع صدام حسين والتي لم يرد فيها ذكر للاسلحة الكيماوية او غيرها من الاسلحة الفائقة الدمار.

على ان الذي يمكن استخلاصه من أحداث سنة 2002 هو انطلاق ثقافة القوة والغلبة وتعميمها، وتشجيع المفكرين المؤمنين بها على نشرها وتأكيد توجهاتها باسم الواقعية والخبرة التاريخية.

لكن ومن الناحية الاخرى فان ثقافة السلام والاخاء البشري التي وجدت لها مكانا طوال الخمسين سنة الماضية لم تمت، ومن الطبيعي وليس من باب التفاؤل وحده ان نتوقع ان تزدهر وان تؤثر على كل القرارات السياسية القادمة.