لا بد من تأجيل المسألة العراقية

TT

يوفر قرار كوريا الشمالية باستئناف برنامجها النووي، وتهديد الإرهاب العالمي المتواصل، أسبابا تستوجب على الرئيس بوش التراجع عن تمسكه بالهجوم على العراق ثم إعادة تقييم أولويات حكومته.

فإعادة كوريا الشمالية تشغيل موقع معالجة البلوتونيوم في يونغ بيون تمكنها خلال ستة أشهر من تحضير مواد خطيرة تكفي لإنتاج العديد من القنابل النووية. وبخلاف وضع العراق، لم تتمكن كوريا الشمالية فقط من تحقيق خطوات متقدمة في إنتاج أسلحة نووية، بل إنها وبالنظر إلى صواريخها طويلة المدى، يمكنها تحميل هذه الصواريخ بمواد أخطر.

ومن هنا فإن أي قرار بشأن التعامل مع هذا الوضع ـ بما في ذلك سياسة «الاحتواء المحكم البناء» التي تريد إدارة بوش تبنيها ـ مشحون بالمخاطر وقد تكون له عواقب وخيمة.

ولما كنت قد اشتركت في المباحثات التي أدت إلى اتفاق إطار العمل خلال عام 1994، وهو الاتفاق الذي خرقته كوريا الشمالية، فإنني مقتنع بأن الأزمة الحالية تتطلب اهتماما شديدا من كبار مسؤولي الإدارة، بمن في ذلك الرئيس. ومن المهم تذكر ان التوصل لحل للأزمة مع كوريا الشمالية سيتطلب مساعي دبلوماسية حثيثة مع الصين ومع كوريا الجنوبية وغيرهما من دول المنطقة. وذلك كله يحتاج الى وقت وطاقة وتركيز.

وفي الوقت نفسه هناك الحرب ضد الإرهاب. فالهجمات الإرهابية الوخيمة تتوالى في أنحاء العالم، وتحدث دمارا في أماكن بعيدة كإندونيسيا وكينيا والأردن واليمن، حيث لقي ثلاثة من أعضاء بعثة صحية تبشيرية مصرعهم على أيدي مسلح بالأمس القريب. أما هنا في أميركا، فما زلنا نشعر بخطر تعرضنا لهجمات إرهابية، كما إننا غير قادرين على التأقلم مع عواقب كل ذلك. وفي الوقت نفسه فإننا لا نستطيع تجاهل هذه المسألة.

أما بالنسبة للشؤون الخارجية، فقد اعتادت واشنطن على عدم التعامل مع أكثر من أزمة في نفس الوقت. وعندما كنت أشغل منصب نائب وزير الخارجية خلال فترة رئاسة كارتر، ساهمت في المفاوضات التي أدت إلى إطلاق سراح 52 أميركيا احتجزوا كرهائن داخل سفارة الولايات المتحدة في طهران. وما زلت أتذكر كيف ان تلك الأزمة المحصورة إلى حد ما طغت على جميع القضايا الأخرى طوال 14 شهرا، بما فيها الغزو السوفياتي لأفغانستان. وبطريقة مشابهة قد يكون تركيزنا على البوسنة وهايتي أعاق اهتمامنا بالمجازر التي وقعت في رواندا.

وبينما قد يكون دونالد رامسفيلد ـ وزير الدفاع الأميركي ـ محقا في القول إن جيشنا يمكنه خوض حربين في وقت واحد، أقول من تجربتي إننا لا نستطيع شن حرب ضد العراق وفي الوقت نفسه مواصلة النهج المطلوب بشأن كوريا الشمالية والإرهاب الدولي. ويدرك جميع من شغلوا مواقع رفيعة في الإدارة الأميركية مدى صعوبة لفت انتباه البيت الأبيض لأية قضية باستثناء قضية اليوم.

فعلى سبيل المثال يبدو ان التعامل مع النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، الذي يعد مسألة كبرى بكل المقاييس، بات الآن متروكا لمساعد لوزير الخارجية. وبنفس الحال، يبدو ان أفغانستان، التي باتت مرة أخرى على وشك أن تصبح مرتعا للإرهابيين، لم تعد تحظى بنفس الاهتمام الذي تستحقه.

سيؤدي هجوم تتزعمه الولايات المتحدة ضد العراق إلى حجب الضوء عن جميع القضايا الخارجية لما لا يقل عن عام. ويمكن توقع أن يتسنى لوسائل الإعلام، خلال الأشهر الأولى، تقديم صورة ما عن المعارك استنادا إلى رؤية أحادية الجانب، وحتى لو ثبتت صحة التوقعات المتفائلة بنصر عاجل، فحينها سنجد أنفسنا مشغولين باحتلال العراق وبمساعي فرض الديمقراطية على أجنحة شرسة في ذلك البلد.

وما لم تكن قد توفرت للرئيس معلومات استخباراتية بشأن قدرات العراق، ولم يعرضها على أحد أو حتى يلمح لها في تصريحاته المعلنة، فإن التهديدات القادمة من كوريا الشمالية ومن الإرهاب الدولي تبدو أكثر الحاحا من تلك التي يمثلها العراق.

وما من شك ان حال العالم سيكون أفضل لو تخلص من نظام صدام حسين في العراق، لكن علينا إدراك ان مسعى الإطاحة به في الوقت الحالي سيشغلنا عن التعامل مع تهديدات أخطر.. فلدينا الآن في العراق برنامج تفتيش أكثر فعالية مما توفر لنا قبل أشهر قليلة مضت، وسيكون الأمر متوافقا مع التزاماتنا تجاه الأمم المتحدة و دافعا نحو علاقات مجدية مع حلفائنا تتيح المجال لذلك الجهد لكي يمضي وفقا لمساره الطبيعي. والصورة الحالية المشوشة لقدرات العراق ونواياه، قد تكون أوضح بكثير عقب فترة متواصلة من التفتيش العادي والمفاجئ ومن عمليات استجواب العلماء العراقيين في ظل ظروف غير قسرية.

ينص نظامنا الدستوري على تمتع الرئيس بسلطات فائقة تتعلق بتحديد أولويات القضايا الخارجية ـ وهو تفويض تم تأكيده في حالة العراق بالإجراء الذي اتخذه الكونغرس قبل أسابيع ـ ومع ذلك، فإن قرار بدء الحرب، خاصة الحرب الوقائية أو الاستباقية، يتطلب رؤية أوسع من مجرد ما قد ينتج عنها أو ما نفضل حدوثه.

وقبل أن يصدر الرئيس بوش أمر الهجوم على العراق، يجب عليه أن يلقي نظرة واسعة على ما إذا كانت مثل هذه الحرب، وفي هذه اللحظة، تمثل الأولوية السليمة بالنسبة لأميركا. وفي ضوء التطورات الأخيرة قد يعكس الفشل في تأمل المسألة مجددا مستوى من الثقة في النهج الحالي بطريقة غير حكيمة وغير جائزة.

* وزير خارجية أميركي سابق (1993 وحتى 1997)

خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»