2003 سنة كل المخاوف والآمال!

TT

لسنا منجمين ولا راجمين بالغيب لكي نعرف ماذا سيحدث بالضبط في العام المقبل، او ربما في الاسابيع القليلة المقبلة. ولكن هناك بعض المعطيات الموضوعية التي تتيح لنا ان نخاطر ببعض التكهنات. فهناك تركيز اميركي ودولي شامل على المسألة العراقية. والعالم كله يحبس أنفاسه بانتظار ما سيحدث. وسوف يحدث شيء مهم ما بدون شك لسبب بسيط هو ان القوة العظمى الاولى في العالم لا تستطيع ان تتراجع بعد ان استعرضت كل عضلاتها امام الآخرين. انها لا تستطيع ان تغامر بفقدان مصداقيتها وهي في اوج قوتها وغطرستها. وبالتالي فالتغيير سوف يحصل بحرب او بدون حرب، ويا ليته يحصل بدون حرب ودمار. فالعراق كفاه دمارا وخرابا، وعلى أي حال فليس مؤكدا ان اميركا سوف تنجح في ضربتها ضد العراق، كما نجحت في افغانستان وربما حصلت تفاعلات وتعقيدات غير متوقعة وأدت الى عرقلة خطتها او حتى فشلها. ولكن التغيير سوف يحصل عاجلا او آجلا. ولا يمكن لكل هذه التعبئة الضخمة ان تذهب سدى.

مهما يكن من أمر فهناك عوامل تلعب لصالح التدخل الاميركي، وعوامل اخرى تلعب ضده. من العوامل الاولى نذكر الركود السياسي في المنطقة، وانعدام آفاق التغيير بفعل قوى داخلية، وانسداد الحالة العراقية بشكل لم يعد يطاق ولا يحتمل، ثم الطلاق الحاصل بين الانظمة والشعوب، الخ. فالعالم بشكل عام سائر نحو الانفراج السياسي، والانتخابات الحرة، واستشارة الشعوب. ولا يمكن للعالم العربي ان يبقى أبديا بمعزل عن هذه الصيرورة التاريخية. فقد اصبح يبدو، اكثر فأكثر، وكأنه نشاز على خارطة العالم.

واما العوامل المضادة للتدخل الاميركي فهي اولا: المأساة الفلسطينية. فسياسة اميركا تبدو غير متوازنة على الاطلاق، اذ تعاقب صدام الذي لم يعد له حول ولا طول وتترك شارون يصول ويجول ويعيث فسادا في فلسطين. هنا تكمن نقطة الضعف الاساسية في استراتيجية واشنطن. وربما كان مقتلها على المدى البعيد، او حتى المتوسط، يكمن هنا. فالقوة وحدها لا تستطيع ان تصنع نظاما عالميا جديدا ومستقرا. العدل، او الحد الادنى منه على الاقل، هو القادر على ترسيخ هذا النظام. يضاف الى ذلك انه يخشى ان يستغل شارون الحرب على العراق لكي ينفذ مخططه تحت غطائها فيقوم بنقل اعداد كبيرة من سكان الضفة الغربية الى الاردن (الترانسفير). وعندئذ يصبح الاردن المحصور بين العراق وفلسطين في موقع حرج جدا.

ولكن هناك شيئا آخر. فبعض الخبراء في الاستراتيجية الدولية من امثال الفرنسي «تييري دو مونبريال» يعتقدون بأن اميركا اذا ما نجحت في احداث التغيير في العراق، فإنها لن تتوقف عند هذا الحد. وانما ستحاول تغيير خريطة المنطقة كلها، ويقول الصحافي، المخضرم جان لاكوتير، وهو من كبار المطلعين على الشؤون العربية منذ ايام عبد الناصر بأنه توجد في ادراج البنتاغون والبيت الابيض خرائط جديدة للمنطقة، ولا علاقة لها بالخريطة الحالية التي نعرفها! فهل هذا صحيح؟ ام انه مجرد اشاعات هدفها التهويل والتخويف.. لا احد يعرف حتى الآن. ولكن الايام المقبلة سوف تكشف لنا عن الجواب.

واما في ما يخص ايران فيعتقد بعض الخبراء بأن الرئيس محمد خاتمي قد ينتهز فرصة الحرب لكي يخوض معركته ضد الجناح المحافظ والمتشدد. وربما قال لهم: بأن دورنا قادم بعد العراق اذا لم نفعل شيئا او اذا لم نقم باصلاحات داخلية تجعل النظام مقبولا بشكل افضل على الصعيد العالمي. واذا ما نجح خاتمي والاتجاه الاصلاحي في الامساك بمقاليد السلطة او انتزاعها من ايدي الاصوليين المتطرفين فإن المصالحة بين الاسلام والحداثة سوف تصبح حقيقة واقعة في طهران. وسوف ينعكس ذلك على الدول المجاورة. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن التجربة التركية السائدة حاليا. وبالتالي فنتوقع ان يلعب جيراننا من اتراك وايرانيين دورا كبيرا في شؤوننا. فهم اكثر تقدما منا من حيث ممارسة الديمقراطية، والانتخابات الحرة الى حد لا بأس به، والحداثة السياسية، ووجود مؤسسات مستقلة كمؤسسة القضاء والتشريع، الخ.

وهذا يقودنا الى طرح مشكلة الاصولية ومستقبلها. ونحن نعتقد انها «أكلت وقتها» كما يقال. فقد كانت صاعدة مزمجرة طيلة الثلاثين سنة الماضية. ولكنها الآن فقدت الكثير من زخمها ومصداقيتها. وبالتالي فنتوقع ان يحل محلها تدريجيا التيار الوسطي المعتدل على الطريقة التركية، او الايرانية الاصلاحية. وربما حصل تحالف بين التيار الاسلامي المعتدل او حتى المستنير والتيار العلماني الحديث وجماعة المثقفين، الخ. ولكن اذا ما حصلت الحرب، وبالاخص اذا ما طالت، فإن التيار الاصولي المتشدد سوف يقوى ويتغلب على ما عداه، ولو لفترة.

مهما يكن من امر، فإن رياح الحرية سوف تهب على المنطقة بعد حصول التغيير بشرط واحد: هو ان يفعل الغرب شيئا ما للقضية الفلسطينية، وان يلجم الطغيان الاسرائيلي، بل ويحدث التغيير داخل الطبقة السياسية الاسرائيلية بالذات. فشارون لن يوقع السلام مع الفلسطينيين او العرب، وينبغي على الاسرائيليين اذا ما ارادوا ان يندمجوا في المنطقة يوما ما ان يختاروا شخصا آخر غيره. اما اذا واصلوا خطهم الانتحاري السائد حاليا، فإنه لا مستقبل لهم في المنطقة حتى ولو انتصروا مائة مرة على العرب! ويعتقد بعض الخبراء في الغرب ان الشعب الفلسطيني هو الذي سيقود العرب مستقبلا نحو الحرية والديمقراطية والحداثة السياسية. لماذا؟ لأنه يدفع ثمنا باهظا في المواجهة الجارية حاليا ولأن آلامه لا توصف. والآلام هي التي تصنع الشعوب، كما تصنع الرجال العظام في التاريخ. هذا لا يعني بالطبع ان الشعوب العربية الاخرى لا تعاني. فالشعب العراقي معاناته لا توصف ايضا بفعل عوامل داخلية وخارجية. وقل الامر ذاته عن الشعب الجزائري.. ولكن الشعب الفلسطيني يواجه دولة الحداثة السياسية والتكنولوجية في المنطقة ويقف في وجهها. ولا بد ان «يستفيد» منها حتى وهو يحاربها او يواجه قمعها وارهابها. لا بد ان يرتفع الى مستوى التحدي ويواجهها بنفس السلاح الفكري او الحضاري الذي تتبجح به. لا بد ان يبني دولة المؤسسات والقانون لكي يثبت للغرب كله ان اسرائيل ليست وحدها دولة المؤسسات في منطقة الشرق الاوسط.

هكذا نلاحظ ان التحدي سوف يصبح اكثر فأكثر حضاريا في المستقبل. والشعب الفلسطيني هو المرشح لقيادة هذا التحدي الحضاري الكبير. ولن تذهب آلامه الرهيبة سدى. ولكن الشعب العراقي مرشح ايضا لهذا الدور اذا ما نجح في مرحلته الانتقالية ولم يغرق في مستنقع الفوضى والصراعات العرقية او الطائفية. والشعب الجزائري مرشح لذلك ايضا، وكذلك الشعب المغربي، والتونسي وبالطبع المصري وبقية الشعوب العربية. نعم ان الحداثة السياسية على الابواب، وكذلك الحرية! وسوف تذوق الشعوب العربية طعمها طال الزمن ام قصر.. لقد جاءت مرحلة «التعزيل» الكبير في الساحة العربية والاسلامية، وهي مرحلة لها بداية، ولكن ليس لها نهاية. او قل اننا لا نستطيع ان نرى نهايتها قبل بدايتها.. وقد تبدو هذه المرحلة سلبية بالكامل بالنسبة للمراقب السطحي او المتسرع. ولكني اعتقد ان وراء الأكمة ما وراءها. وهناك حكمة تتجاوز افهامنا في هذه اللحظة. فالتاريخ لا يتقدم الا من ابوابه الخلفية، او حتى من ابشع ابوابه احيانا.. ومرحلة التفكيك والانهيارات تسبق عادة مرحلة البناء والتعمير. فلينفجر التاريخ اذن بالبراكين والحمم، وليفرّغ كل ما في احشائه من تراكمات مكبوتة على مدار السنين. فالمصارحة الكبرى للذات العربية الاسلامية مع ذاتها هي الخطوة الاولى التي لا بد منها من اجل الخروج من المأزق، من اجل التوصل الى مستقبل عربي آخر مختلف جذريا. وسوف يرى الغرب والعالم كله ان للعرب وجها آخر، وجها حضاريا مشرقا، غير هذا الوجه القمعي المستبد الذي يهيمن علينا اليوم.. لكن يبقى صحيحا القول بأن العصر العربي الراهن هو عصر الآلام، آلام لها بداية ولكن ليس لها نهاية.