ما بين الجبلتين

TT

كانت بدايات القرن العشرين، أول علاقة مباشرة بين الكويت والولايات المتحدة الأميركية، «المريكاني»، هكذا كان الكبار يسمون أول مستشفى في الكويت، بني عام 1901 في منطقة «جبلة» في الكويت القديمة، ولا يزال قائما كمبنى تاريخي اثري.. مجموعة من المتطوعين من أطباء وممرضين، دفعهم واجبهم الانساني لمعالجة البشر في الكويت، لم تسجل ولا حالة واحدة في التنصير أو التحول من الاسلام الى المسيحية على أيدي أولئك الأطباء، كان البدو يفدون اليه للعلاج المجاني، وكانوا يشيدون بخدماته المتقدمة مقارنة بما كان لديهم من طبابة شعبية، أغلق المستشفى وذهب اولئك الأطباء من الدنيا وبقيت ذكراهم خيرة بين الناس.

ذكرني بالمريكاني في جبلة بالكويت مستشفى جبلة في اليمن، نحن الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين، الناس من جبلة في اليمن والمناطق المحيطة بها يتوافدون على مستشفى جبلة الذي كان مسرحا لمجزرة دموية بدم بارد الاسبوع الماضي، الضحايا ثلاثة أطباء والرابع اصيب اصابة خطيرة، كان الناس في اليمن من الفقراء والمرضى والطيبين يتوافدون ليعبروا عن حزنهم واستهجانهم لما جرى لملائكة الرحمة من الأطباء الذين كانوا يعالجون فقراء اليمن في جبلة مجانا. واختلطت صرخات الاطفال المرضى مع صرخات الاستنكار والادانة. واحتار المرضى في سبب ارتكاب مثل هذه الجريمة البشعة. جاءت الاجابة على لسان احد اليمنيين البسطاء ذكر لإحدى الفضائيات ان القاتل «لا يمكن ان يكون يمنيا، ولا يمت لليمن بصلة، ولا يداري او يراعي مصلحة اليمن والمرضى الفقراء الذين يتلقون العلاج مجانا على أيدي اطباء مستشفى جبلة». توقفت عند التبرؤ من كل من يرتكب فعلا مخجلا، وجريمة عبثية باسم الاسلام والاسلام منها براء. حكومات عربية عديدة اسقطت جنسيتها عن ابنائها الذين مارسوا الارهاب، وتبرأوا من الدماء التي لطخوا بها اياديهم، وحاولوا ان يورطوا حكوماتهم أو ان يلصقوا ما قاموا به بالدين الاسلامي السمح، وجروا الوبال والويل على شعوبهم وعلى المسلمين في انحاء متفرقة من العالم.

نتساءل: كيف خرج هؤلاء؟ ومن أين أتوا؟ وأين تعلموا وتتلمذوا؟ ومن الذي شحن عقولهم بنظريات الغاء الآخر ـ ايا كان هذا الآخر؟ بعد مذبحة جبلة بيومين، اغتال يمني آخر جار الله عمر. لم يكن جار الله عمر تبشيريا ولا نصرانيا، لماذا قتلوه إذن؟ لأنهم جميعا نهلوا من مدرسة الغاء الآخر، ولأنهم شربوا من عين السموم ذاتها التي تصور لهم العالم على انه فسطاطان لا ثالث لهما، ولأنهم لا يؤمنون بحق المشاركة في تفاسير الدين وترجماته، فلقد قرروا تحويل كل التفاسير الى شركة مقفلة، ثم القوا بمفاتيح ابوابها في احدى مغارات تورا بورا بأفغانستان.

ان التبرؤ من هؤلاء لن يوقف اعمالهم التدميرية، والتخلص من هؤلاء لا يتم ايضا باستقدام القوات الاميركية لاغتيالهم على أرضهم وبين اهلهم وفي اوطانهم، فهؤلاء فكر ومدارس نشأت وترعرعت في ظل حكومات القهر، وفي غياب الديمقراطيات والحرية، ونبت لحمهم من سحت بعض الأنظمة العربية التي ظنت ان تربيتهم ورعايتهم تعني القدرة على ضبطهم وربطهم.

ما بين جبلة الكويتية وجبلة اليمنية قرن كامل، وعقل غائب.