الولايات المتحدة والإرهاب وحروب القرون الوسطى

TT

يتكشف يوماً بعد يوم أن واشنطن عزمت الأمر على فرض سياساتها على العالم بالقوة العسكرية، لكنها ستكتشف مع الوقت انه لا مفر لها من تغليب التسويات السلمية على الحلول العسكرية، والحوار بين الحضارات على تصادمها. وتؤشر الهجمات ضد المواطنين الأميركيين في مناطق متفرقة من العالم العربي وآخرها في اليمن الى أن المصالح الأميركية باتت في مهب رياح الشرق الأوسط العاصفة.

والحقيقة التي لا بدّ من تظهيرها ان المصالح الأميركية في العالم العربي ضخمة جداً، في حين ان السياسة الأميركية تجاه العرب ظالمة جداً، وذلك قبل سبتمبر وبعده. وما كان بمقدور عاقل ان يتوقع أن تبقى هذه المصالح بمنأى عن الهجمات، في حين ان العديد من المؤشرات توحي الى أن هذه الهجمات الى تصاعد، وأن الحرب الأميركية على الإرهاب لن تتمكن من احتوائها والقضاء عليها.

وسبب عدم القدرة الأميركية لا يعود الى عجز في القوة الاميركية غير المتناهية، بل السبب بسيط وهو أن المصالح الأميركية منظورة ومكشوفة، فيما المنظمات الإرهابية وخلاياها غير منظورة وغير مرئية، وربما موجودة بالقرب من المصالح الأميركية وملاصقة لها اكثر مما يتصوره الأميركيون أنفسهم.

ولا مجال لمجرد التفكير باحتمال قيام هدنة بين الأميركيين والإرهابيين. فالخبراء الاستراتيجيون في واشنطن لا يفكرون على الإطلاق في هذا الاتجاه، بل يضعون الخطط لتصعيد حمى المواجهة والتوصل الى استسلام الارهاب بالكامل، وانتصار الولايات المتحدة بالكامل، على غرار ما جرى مع المانيا النازية. كما لا أتصور أن الإرهابيين بدورهم يفكرون بأي تسوية سياسية، بل جلّ ما يهمهم هو كيفية تسديد الضربات الناجحة الواحدة تلو الأخرى بقصد إجبار الأميركيين على وقف تدخلاتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية في الشرق الأوسط.

عظمة الولايات المتحدة تأبى الانصياع. وتصميم الإرهابيين يرفض الرضوخ. والمواجهة مفتوحة حتى فناء الآخر. ولن يكون الأمر بالبساطة التي يتخيلها كل طرف، والتداعيات ستتعدى حدود العالمين العربي والإسلامي لتصل الى حدود العالم برمته.

وفي ظني أنه لا بد من العودة الى البحث عن التسويات السلمية، فالتصادم العالمي لا يقوض امة لصالح امة اخرى، بل يقوضها جميعها، وينزع عن العالم وجهه الإنساني ويعيده مئات السنين الى الوراء، وحتى الى زمن القرون الوسطى وما شهدته من فظائع الحروب الدينية.

في القرن الماضي عاش العالم في ظل توازن الرعب النووي بين الجبارين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكان خطر تصادمهما لا يهدد أحدهما فحسب، بل كان يهددهما معاً، لا بل يهدد الكون وإفناء البشرية جمعاء.

ومنذ مطلع هذا القرن يعيش العالم في مناخ تصادم بين الحضارتين العربية والغربية، وتحديداً التصادم بين الأديان، ولا سيما بين الديانتين الإسلامية والمسيحية. وإذا حدث ووقع مثل هذا التصادم، فإن الولايات المتحدة تكون قد جرّت العالم الى الشرك الذي نصبه لها الإرهاب.

ومن المفجع بحق البشرية والإنسانية أن يخرج العالم من خطر تصادم الجبارين ليدخل في خطر تصادم الحضارتين او الدينين، كما لو أنه مكتوب على العالم أن يبقى في حالة صدام مستديم، وفي قلق لا يتوقف.

ومن المفجع بحق الأجيال الصاعدة التي شبّت على تكنولوجيا المعلومات وعلى التواصل عبر الانترنيت أن نفقدها ثقافة الحوار ونقنعها بتفضيل ثقافة الصدام عليها، أو أن نقنعها بأن الحديث عن السلام هو مجرد هراء، وأن اللجوء الى القوة هو الحل الوحيد لحل المشاكل في العالم.

من حقنا على الولايات المتحدة، وهي القوة العظمى والوحيدة في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أن نسألها عن المخططات التي تعدّها للشعب الأميركي ولشعوب العالم قاطبة، وتحديداً عن مخططات التسوية السلمية في الشرق الأوسط، ومن حقنا أن نسألها إذا كانت مخططاتها واستعدادتها لخوض الحرب ضد العراق تؤدي الى حماية الشعب الأميركي وشعوب العالم من خطر الحروب المدمرة، أم أنها تجعل شعبها وشعوب العالم وقوداً لحرب مدمرة وعبثية تصر عليها ولا تفكر لحظة بتفاديها بالطرق السلمية.

والمفارقة في هذه المواجهة ان الولايات المتحدة تستخدم قدرات غير متناهية لتحدث تدميرأ غير محدود، لكنها لا تتوصل في المحصلة الا الى نتائج محدودة جداً، كما حصل معها في افغانستان. في المقابل يملك الإرهاب قدرات محدودة جداً لكن عملياته توصل الى نتائج غير محدودة، كما حصل في عملية سبتمبر التي يمكن أن تتكرر ثانية وفي أي عاصمة من عواصم العالم.

أما المفارقة الثانية فنابعة من خطر انجراف الولايات المتحدة الى منطق الاحتلال العسكري، واستخدام القوة العسكرية لأهداف اقتصادية، فتعيد إنتاج استعمار جديد كانت هي السباقة في إدانته عندما كان العديد من الدول الأوروبية تستعمر في بداية القرن العشرين معظم دول الشرق الأوسط وتستغل شعوبها وثرواتها. فتكون الولايات المتحدة كمن يقود نفسه الى شرك آخر ينصبه له الإرهاب لا يقلّ خطراً عليها عن شرك الصدام بين الحضارتين والدينين.

وإذا نجحت الولايات المتحدة في تفادي شرك الصدام بين الحضارات، فإن عليها أن تتفادى أيضاً شرك توسيع قاعدة المعادين لها في العالمين العربي والإسلامي، فلا تدفع بقوميين ومقاومين عرب ومسلمين مستنيرين دفعاً الى التورط معها في مواجهة يفترض أن تبقى محصورة بينها وبين الإرهابيين.

ان واشنطن تواجه مخاطر امتداد مواجهاتها الى أنحاء عديدة من العالم ومن الشرق الأوسط، وان يطول زمن المواجهات الى ما لا نهاية، وان تضطر الى العودة الى أساليب الاستعمار وما استتبعه من ردات فعل لدى شعوب العالم، ولا سيما شعوب العالمين العربي والإسلامي.

بناءً على ما تقدم، تقتضي مصلحة الولايات المتحدة ان تحصر مواجهاتها العسكرية بالإرهابيين، وان تعمل على إيجاد تسويات سياسية مع باقي الأطراف بما فيها الطرف العراقي.

وفي حال انجرفت واشنطن الى الحرب على العراق فإنها تكون قد تورطت في حرب استعمارية عبثية تربح فيها في البداية وتخسر في النهاية.