نذر الحرب هل تتراجع؟

TT

هذا سؤال غريب عجيب بين الأمواج المتلاحقة المتصاعدة في مجال الاستعدادات الأمريكية للحرب على العراق.

ولعل الغرابة تخف اذا افترض القارئ او المراقب شيئا من المصداقية والمسؤولية في التصريحات الامريكية والدولية التالية التي صدرت قبل ساعات من كتابة هذه السطور.. ومنها ما صدر قبل ايام قليلة:

1 ـ مع مطلع العام الميلادي الجديد، قال الرئيس الامريكي جورج بوش: «إنني آمل التوصل الى حل سلمي للأزمة العراقية، لأنني عازم خلال السنة الجديدة على العمل لايجاد حل سلمي لكل هذه الاوضاع.. وواشنطن غير متأكدة من ان العراق يملك سلاحا نوويا، وان الهدف من الوجود العسكري الامريكي في المنطقة هو تذكير بغداد بأن واشنطن ستتزعم ائتلافا لنزع سلاح صدام حسين اذا لم يقم هو نفسه بهذه المهمة».

2 ـ قبل ذلك بقليل، قال وزير الخارجية الامريكي كولن باول: «ان الحرب على العراق لم ترق الى مستوى الحتمية».

3 ـ اما نائب وزير الدفاع الامريكي بول وولفويتز: مهندس هذه الحرب المتوقعة، وداعيتها الأول، فقد نشر مقالا في صحيفة واشنطن بوست قال فيه: «لن يكون من المسؤولية: التفكير فقط في أسوأ الأحوال، فالأمور يمكن ان تتطور في اتجاه اكثر ايجابية، وعلينا ان نكون مستعدين لهذا الاحتمال حتى نتجنب سقوط قتلى امريكيين وعراقيين دون جدوى. ان الرئيس بوش لم يتخذ قرارا باستخدام القوة لنزع أسلحة العراق وترسانته من أسلحة الدمار الشامل. اما التحضيرات الامريكية للحرب فهي أسوأ السيناريوهات. وما زلنا نحاول الوصول الى هدفنا من خلال وسائل سلمية، لأننا ندرك المخاطر المترتبة على استخدام القوة».

4 ـ على المستوى الدولي: اختار كوفي عنان الامين العام للأمم المتحدة هذه الكلمات وضغط عليها وهي: «ان تعاون العراق مع المفتشين الدوليين ممتاز، ولا داعي للحرب والحالة هذه، ولننتظر حتى يفرغ المفتشون من مهمتهم ويقدمون تقريرهم. واذا استمر العراق في التعاون الجيد مع المفتشين الدوليين، فإن من شأن هذا التعاون: ان يسحب البساط من تحت اقدام دعاة الحرب».

وبالعودة الى الموقف الامريكي ـ المعبر عنه بالتصريحات الآنفة ـ ينشأ هذا السؤال: ما الأسباب التي حملتهم على هذا الاعتدال او التعقل او (اللين) النسبي؟

أ ـ لعل السبب هو: نتائج الاستطلاع الشعبي العام الذي اجرته صحيفة لوس انجلس تايمز. فقد اظهرت هذه النتائج: ان %72 ممن شملهم الاستطلاع غير مقتنعين بالأسباب التي قدمها الرئيس بوش لشن حرب على العراق.. ولا شك ان هذه النسبة العالية مرتبطة بالجنود او المقاتلين الامريكيين انفسهم، ذلك ان هؤلاء المقاتلين انما هم ابناء تلك النسبة او اخوانهم او آباؤهم او زوجاتهم او ازواجهم. وحين يكون في الامر موت او اعاقة تشف حسابات الناس وتدق وتنأى عن الخيالات والاحلام.

ب ـ لعل السبب: توقع التأثير السلبي على الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية المقبلة (التي ستجرى في أقل من عامين). فليس مضمونا %100: ألا تقع الخسائر البشرية التي توقعها بول وولفويتز.

ج ـ لعل السبب: الحرج الايديولوجي والسياسي الذي تشعر به الادارة الامريكية من حيث تناقض موقفها في (قضية) واحدة. فكوريا الشمالية تحدت الادارة الامريكية بسفور، حيث استأنفت برنامجها النووي، وطردت المراقبين الدوليين، وفككت اجهزتهم الرقابية، ومع ذلك قابلت الادارة الامريكية هذا التصعيد الكوري النووي بكثير من التسامح واللين والجنوح للسلم، في حين وقفت من قضية مماثلة (بل أقل حدة وخطرا) وهي قضية التسلح العراقي: موقف التأهب للحرب والضرب.. ومنشأ الورطة المحرجة: الاتهام بأن الحرب على العراق باعثها نفطي مادي، وليس الحرص على نزع اسلحة الدمار الشامل (وقد تسربت معلومات جدية تفيد بأن امريكا امدّت العراق بخمائر تلك الاسلحة وادواتها في فترة سابقة). ولما كانت كوريا الشمالية ليست دولة نفطية، فقد عوملت بلطف.. ومنشأ الورطة المحرجة كذلك: الاتهام بأن كوريا الشمالية ليست دولة عربية ولا مسلمة، ولذا تناقصت النقمة عليها الى ادنى مستوى. وبما ان العراق يحمل هاتين الصفتين ـ العروبة والاسلام ـ فإنه بسببهما ارتفعت النقمة عليه الى اعلى معدلاتها. ولا شك ان هذا مفهوم يصدع العلاقة بين امريكا والعالم الاسلامي صدعا عميقا وطويل المدى.. والعاقل المتحضر لا يسعى الى (تكثير الخصوم)، ولا يستديم الخصومة.

د ـ لعل السبب هو: ان الاستدارة الامنية والسياسية الهائلة نحو العراق، نقصت ـ كميا ونوعيا ـ من الجهد المبذول في مكافحة الارهاب. وترتب على ذلك: فرصة اوسع للارهاب ومزيد من الاعمال الارهابية في اندونيسيا، وكينيا، والفلبين، وباكستان، واليمن الخ. وكلما طالت الاستدارة وتركزت، رزئ العالم ـ والامريكيون انفسهم ـ بمزيد من الارهاب الهائج المجنون.

هـ ـ لعل السبب: استجابة العراق الجادة لقرار مجلس الامن 1441. مهما كان الرأي في النظام العراقي، فإن الامانة السياسية تقتضي القول: ان العراق قد التزم بذلك القرار، ومكن المفتشين الدوليين من البحث عن اسلحة الدمار الشامل في كل مكان.

ولا نعلم في التاريخ السياسي حالة مثل هذه الحالة: ترضخ فيها دولة للمشيئة الدولية بهذه الصورة الا حالة المانيا في اعقاب الحرب العالمية الثانية مع فارق كبير ايضا وهو: ان المانيا لم تكن قادرة على ان تريد.. اما العراق فهو يستجيب للقرار الدولي بارادته، وان كانت ارادة مشوبة ومقيدة بأخطاء شهر اغسطس عام 1990.

والاستجابة العراقية تلغي او تضعف مسوغات الحرب، بمعنى ان الولايات المتحدة اذا شنت الحرب، والعراق مستجيب، انما تكشف ـ بيديها ـ صفحة تُملأ بالاتهامات من كل نوع. ومن هذه الاتهامات: ان مسألة اسلحة الدمار الشامل هي مجرد ذريعة، وان الاحساس بالمسؤولية الدولية قد انعدم وان الحرب اجندة صهيونية.

و ـ لعل السبب: الخشية الموضوعية من حدوث تداعيات ومؤثرات جسيمة وضارة على الاقتصاد الامريكي ، والاستراتيجية الامريكية، والوجود الحضاري الامريكي برمته.

وقد عبر عن هذه الخشية الموضوعية ـ على سبيل المثال ـ:

اولا: الكاتب الامريكي أناتول لايفن، اذ كتب يقول: «واكثر ما يدهش في الاندفاع الى الحرب: انه اندفاع طائش ومتهور، واذا كنت سأراهن على نتائج الحرب، فإني اقول ان احتمالات النجاح السريع في تدمير النظام العراقي تبلغ 5 الى 1. ولكن مكاسب الولايات المتحدة في المدى الطويل تبدو محدودة، في حين ان نتائج الفشل ستكون كارثة. اذ ان الاشتعال العام في منطقة الشرق الاوسط، وتعرض المزيد من الدول العربية الصديقة للغرب لمشاكل خطيرة سيؤديان الى خسارتنا للحرب على الارهاب، وسيقضى بالموت على الآلاف من المدنيين الغربيين في العقود المقبلة، وسيدفع بالاقتصاد العالمي الى الكساد.. والى جانب ذلك اذا استمر الاقتصاد الامريكي في حالة الركود او اصابه تراجع شديد، فالأرجح: ان الجمهوريين لن يظلوا في مقاعد السلطة بعد سنة 2004».

ثانيا: ومن المعبرين ـ بوضوح وقوة ـ عن هذه الخشية الموضوعية على مستقبل الولايات المتحدة: عالم الاجتماع الامريكي، ايمانويل فالارشتاين، فقد قال: «ارى ان الصقور على خطأ تام، فهم لا يفعلون بتوجهاتهم هذه شيئا غير تحويل الضعف التدريجي للقوة الامريكية الى سقطة اشد سرعة، واعلى دويا، واشد خطرا. والواقع دل على ان اغلب الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة خلال العقود الماضية لم تؤد ـ قط ـ الى الانتصار المأمول. يضاف الى ذلك ان الوضع الاقتصادي المتدهور لن يسمح للولايات المتحدة بشن حروب مكلفة ماديا وبشريا».

ثالثا: ان الرئيس الامريكي جورج بوش نفسه قد عبر عن هذه الخشية حين قال في مطلع السنة الجديدة: «اعتقد ان هجوما على العراق سيلحق ضررا بالاقتصاد الامريكي».

ز ـ لعل السبب: حصول (تقدم في الأجندة السرية).

ما الأجندة السرية؟

من بنودها: موافقة العراق على (دور ما) في تسوية الصراع العربي الاسرائيلي في المنطقة: دور مثل: الدخول في عملية التطبيع، او تسوية مشكلة اللاجئين.. ومن هذه البنود: القيام بدور معين في مجال النفط.

ومن اهم بنود الاجندة السرية: ان تظفر امريكا بالنصيب الاوفى في الاستثمارات الضخمة المقبلة في العراق.

ان النظام العراقي ليس مجنونا الى الحد الذي يلغي (بدون سبب) صفقة استثمارية ضخمة مع روسيا، وهو احوج ما يكون الى موقفها من الحرب، في مجلس الامن وغيره.. وباستبعاد احتمال الجنون، يتبدى السبب المعقول والوجيه في هذا (الانقلاب الاقتصادي العراقي). وهذا السبب هو: ان الغاء الصفقة مع الشركة الروسية جرى لصالح الشركات الامريكية.. يتعزز هذا التوجه بنقط ثلاث:

النقطة الاولى هي: ان الهدف الاول للرأسمالية الامريكية هو: البحث عن المناجم والحقول الدسمة، والاسواق الاستثمارية الضخمة.

النقطة الثانية: ان اكثر من ثلاثين عقدا ابرمت في الفترة الاخيرة بين العراق وبين شركات (ايني) الايطالية، و(ديسبول) الاسبانية، و(تات نفط) الروسية، و(توتال فينا) الفرنسية، وشركات اخرى: هندية وصينية. ومن الواضح ان نصيب الشركات الامريكية في هذه العقود يكاد يكون صفرا.. اما النقطة الثالثة فهي: ان المعارضة العراقية حاولت ان تزايد على النظام العراقي في هذا المجال الحيوي اذ قالت: «انه في حالة تغيير النظام، ستحصل الشركات الامريكية على نصيب الاسد من عقود النفط والاستثمار في العراق».

ويلحظ: ان الاسباب السابقة معقولة كلها، بيد انه من الجنون: الا يترك هامش او مساحة للجنون السياسي او الاستراتيجي.. ومما يعين على الجنون:

أ ـ ان للقوة (سكرة) تفوق سكرة الخمر.

ب ـ ان اللوبي الصهيوني، وحليفه اليمين الايديولوجي المتطرف، يضغطان ضغطا عموديا، ويدفعان دفعا متصلا في اتجاه الحرب. فهذا التكتل يردد مقولة مجنونة وهي ان تراجع امريكا عن الحرب يسقط هيبتها!!

ج ـ ان (الضعف العربي) العام يغري بالاستخفاف والاستضعاف. فباستثناء حالات معينة، فإن شرائح سياسية وثقافية في الوطن العربي أمست تؤمن بـ (القدر الامريكي) اكثر مما تؤمن بـ(القدر الالهي)!!.. ولم ترتق هذه الشرائح حتى الى الحس الغريزي الوطني المعتاد الذي استبطنته الشعوب والحكومات المجاورة لكوريا الشمالية، ومنها: كوريا الجنوبية التي رفض رئيسها المنتخب الجديد: المشاركة في فرض حصار اقتصادي على كوريا الشمالية. وهو حس او موقف أثر ـ بعمق ـ في الموقف الامريكي اللين تجاه كوريا الشمالية.

ثم انه ليس من التقدير الحصيف والامين: استبعاد ان تكون التصريحات التي وردت في صدر هذا المقال محض (خداع استراتيجي) مماثل للخداع الاستراتيجي في الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمات احتلال الكويت، وفي حرب تحريرها.