رهانات السنة الجديدة

TT

تنطلق السنة الجديدة في عالمنا العربي وثلاثة ملفات حيوية تنذر بأزمات حادة، وتحمل تحولات نوعية ـ تبدو في طور الحسم، باعتبار تسارع وتضافر العديد من المؤشرات الدالة. وهذه الملفات هي: المشكل العراقي الذي يستأثر بواجهة الأحداث، ومستقبل الانتفاضة الفلسطينية في عامها الثالث، والعلاقات العربية ـ الأميركية التي لم تنفك تتأزم وتتعقد منذ زلزال 11 سبتمبر 2001.

وعلى الرغم من أن الملفات الثلاثة ليست بالجديدة، إلا أنه من الواضح أن الأشهر القادمة ستشهد متغيرات هامة تؤثر على مسارها، في وقت برزت هشاشة وعقم المقاربات القائمة في إدارتها.

فبخصوص الموضوع العراقي، لا نحتاج لتبيان مدلول الخطوات المتسارعة لاستكمال الشروط الموضوعية لضربة عسكرية أصبحت وشيكة، على الرغم من كل التصريحات المطمئنة، فمن البديهي أن قرار مجلس الأمن الأخير هو في حقيقته إعلان حرب، وإن سمح للآلية الديبلوماسية بهامش محدود لا يتجاوز إمكانات تأجيل الحرب وصيغ استثمار وإدارة نتائجها.

ولا شك في أن القرار ـ كما أكد جل المراقبين والخبراء ـ يسمح في بنود عديدة بتأويلات كثيفة ومتضاربة، من شأنها تسهيل مهمة الإدارة الأميركية التي اتخذت منذ مدة قرار تغيير نظام الحكم وحددت الخطوط العريضة لما بعده.

وليس السؤال المطروح هو كيف ستشن الحرب وبأي ثمن ستحقق أهدافها، وإنما الإشكال الجوهري الذي يتوجب على الفكر الاستراتيجي العربي التفكير المعمق فيه، هو طبيعة ودلالة وتأثير العقيدة الاستراتيجية الأميركية الجديدة القائمة على مبدأين شديدي الخطورة هما من جهة: استصدار الحق في قلب أنظمة الحكم وتغيير السلطات الخارجة عن الطاعة، والتدخل المباشر لوضع البدائل وتقنين الخيارات الكفيلة بحماية المصالح الأميركية.

وقد عبرت الأدبيات الرسمية عن هذا التوجه من خلال مفهومي «الحرب الوقائية» و«التدخل العسكري لفرض قيم الديمقراطية والحرية»، والعبارتان وردتا في مقالات وأحاديث منشورة مؤخراً لأركان الإدارة الأميركية، وعلى الأخص وزير الدفاع رامسفيلد ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس، وقد عبرت عنهما مبادرة وزير الخارجية باول بلغة أكاديمية وديبلوماسية مهذبة.

ومهما كان من شطط ومبالغة في المخططات السريالية التي يكثر الحديث عنها راهنا في الصحافة الغربية، إلا أن دلالة هذه التحولات في الفكر الاستراتيجي الأميركي ستكون ملموسة وكثيفة، وستتخذ مسارات مقلقة، وتستدعي المتابعة اليقظة وردة الفعل العقلانية الواعية.

أما بخصوص الملف الفلسطيني، فيجدر التنبيه إلى عاملين جديدين شديدي الأهمية، هما من جهة مبادرة إقرار الدولة الفلسطينية بشروط باهظة التكلفة تتلخص في استبدال حق المقاومة بالشراكة الأمنية مع إسرائيل، ومن جهة أخرى التدخل المباشر في تركيبة المؤسسات الفلسطينية لتهيئة الأرضية لحل نهائي متدرج يفضي إلى احتواء الموضوع الفلسطيني في معادلة اقليمية يحكمها المنطق الأمني في سياق الحرب الدولية ضد الإرهاب التي تتزعمها الولايات المتحدة.

وغني عن البيان، أن دلالة هذه التحولات تعني أساسا التنصل من استراتيجية رعاية التسوية الشرق أوسطية من منطلق نوعية القوانين الدولية والاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف التي نجمت عن مسار مدريد ـ أوسلو، في أفق التوصل لخيارات بديلة، بدأت تتردد في الإعلام الأميركي مثل العودة للورقة الأردنية، والحكم الذاتي الموسع المدعى تجاوزا بالدولة، وغيرها من الخيارات التي تؤكد نجاح المؤسسة الصهيونية في السيطرة على دوائر الفكر والقرار في الولايات المتحدة.

ولا شك في أن الملفين العراقي والفلسطيني هما على رأس رهانات العلاقات العربية ـ الأميركية التي عرفت شروخاً عميقة خلال السنة المنصرمة، على رغم ظاهر اللغة الديبلوماسية الناعمة التي تغطي المصاعب والإشكالات المسجلة على هذا الصعيد.

بيد أن خلفية أزمة العلاقات العربية ـ الأميركية تتجاوز هذين الملفين الساخنين، وتتنزل في أرضية أكثر اتساعا وحساسية، هي أرضية الرمز والصورة والثقافة.

ولا نحتاج إلى أي استطلاعات رأي لنؤكد كم هي باهتة وسيئة صورة العرب والمسلمين في الثقافة والإعلام الأميركيين، ولا تقل الصورة قتامة وسواداً على الجبهة الأخرى (أي صورة الولايات المتحدة في الوعي والمخيال العربيين).

وقد وقفنا في مناسبات متكررة عند بعض مظاهر الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام ديناً وثقافة وقيماً في الأدبيات الفكرية والإعلامية الأميركية، بما فيها القريبة من الأوساط الرسمية. ان من شأن هذه الوضعية أن تؤدي بالضرورة إلى تعزيز وتفاقم خط التشدد والتعصب والميل للإرهاب والعنف في المجتمعات العربية والمسلمة، بعد ان استقر في الوعي العام العداء الأميركي المستحكم للمنظومة العقدية والقيمية العربية ـ الإسلامية، والدعم الأميركي اللامشروط للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني المحتل. واستهداف مصالح الأمة وأمنها القومي في جبهات أخرى عديدة.

وبطبيعة الأمر، لا يشكل هذا الخط المتشدد خياراً مقبولاً أو ناجعاً، بل هو في حقيقته مظهر خطير لأزمة داخلية تقتضي التجاوز والحل، حتى ولو كانت تغذى من الخارج.

ان ما نريد ان نخلص إليه، هو ان الفكر الاستراتيجي العربي يحتاج في مطلع السنة الجديدة التي تبدو خطيرة وحاسمة الى بلورة الرؤية الثابتة المسؤولة والواعية لمواجهة هذه التحديات التي تتجاوز انعكاساتها التموجات الحديثة السريعة.

وتتحدد الرهانات المستقبلية في ثلاث بؤر حيوية أساسية هي:

ـ إعادة صياغة مفهوم الأمن القومي في مرحلة الأحادية الأميركية وتغير التوازنات والاستراتيجية والصيغ التشريعية والقانونية للنظام الدولي.

ـ تحصين خيار المقاومة المشروع ضد الاحتلال والعدوان والتصدي لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية بالتعدي على حق الشعب الفلسطيني في تحقيق مصيره وبناء كيانه المستقل وضمان حق عودة لاجئيه للوطن.

ـ بناء جسور الجوار والتواصل مع الفضاءات الثقافية الأخرى ومن منطلق المقتضيات الموضوعية لديناميكية عولمة لا تنحصر في المصالح الاقتصادية، وإنما تطرح بالضرورة اشكالات ثقافية وقيمية تستدعي الحوار المسؤول في أفق التوصل لضوابط كونية تحمي حقوق التنوع الثقافي والحضاري.