أدركوا الماضي

TT

الكل مشغولون في هذه الايام بالوضع العراقي الحاضر وكيف يمكن انقاذه. اعتقد ان اهم من ذلك هو كيف يمكن انقاذ ماضي العراق بدلا من حاضره. فلا اعتقد ان التاريخ سيسجل في صفحاته شيئا عن حاضر العراقيين. ربما لا اكثر من سطر او سطرين يقولان ان سكان بلاد الرافدين اصيبوا بالجنون مرتين، في عام 1958 ثم 1968. هذا كل ما سيذكره التاريخ عن حاضر العراق، ولكنه سيبقى يكرس فصولا مسهبة ومصورة عن ماضي العراق. ولهذا قرأت باهتمام المذكرة التي رفعتها الدكتورة هريت كروفورد، رئيسة المدرسة البريطانية لآثار العراق، الى اللورد لي في هذا الخصوص. واشارت فيها الى الاخطار المحدقة بالآثار العراقية. نحن نعرف ان الكثير منها قد سرق حتى من المتاحف وهرِّب الى الخارج، وبانشغالها بمشاكلها، خاصة حرصها على سلامة القصر الجمهوري والقيادة، اصبحت صيانة الآثار وحراستها آخر مستلزمات الدولة. لا شك اننا مدينون لذلك الطيار الانكليزي ابن الحلال الذي كلف بتدمير الطائرات العراقية في الجنوب وعاد ادراجه دون ان يهاجمها لأن القيادة العراقية وضعتها بجانب آثار أور ـ مسقط رأس ابراهيم الخليل عليه السلام. الخواجات دائما احرص على تراثنا منا. ولكن الخواجات من الناحية الاخرى منعوا ضمن شروط الحصار وصول المواد اللازمة لصيانة الآثار. وكان لذلك ـ كما تقول الدكتورة كروفورد ـ نتائجه السيئة. يقال مثل ذلك عن توريد آخر الكتب والمطبوعات المنشورة في الغرب بشأن الآثار العراقية. ذكرت التقارير الغربية ان الامريكان خططوا للاستيلاء فورا على حقول نفط كركوك قبل ان تتعرض لأي خطر.

الرئيس بوش طبعا مهووس بالنفط حتى قيل لي انه يبدأ نهاره وحالما يستفيق من النوم بشرب قدح من نفط برنت الطازج. هذا امر يعنيهم. ما يعنينا هو صيانة تراثنا. فالعراق من البلدان العجيبة التي يكون فيها مستقبل البلاد في ماضيها. النفط مادة هالكة ولكن الآثار ثروة باقية. طالما ذكرت من قبل ان ثروة العراق الحقيقية ليست في نفطه ولا كبريته ولا حتى في نخيله أو زراعته أو مياهه، ثروته في مواقعه السياحية غير الهالكة.

مئات الالوف من البشر سيتهالكون على زيارة العراق سنويا، ليس فقط لجباله الخلابة أو اهواره الفريدة أو شواطئ انهاره الساحرة أو لياليه المنعشة، وانما لأماكنه الدينية والتاريخية والآثارية. أور ولد فيها ابراهيم الخليل وخاض معركة التوحيد فيها، قبور انبياء العهد القديم موجودة في العراق وليس في فلسطين. اضرحة آل البيت يوجد اكثرها في العراق، في النجف وكربلاء والكوفة والكاظمية وسامراء. للمسلمين السنة، هناك ضريح ابي حنيفة والكيلاني والأئمة الصالحين.

فقط من نذور هؤلاء الزائرين يستطيع الشعب العراقي ان يعيش هانئا، بل وحتى من موتاهم المتعطشين للدفن بجوار الامام علي رضي الله عنه.

تشير هذه المذكرة المرفوعة من المدرسة البريطانية لآثار العراق، الى ضرورة تعبئة حراسة للأماكن الأثرية خوفا من نهبها أو تلفها. الطيارون الامريكان مشهورون بالقصف الخاطئ. فقد الانجليز من جنودهم بنتيجة خطأ الطيارين الامريكان أكثر مما فقدوا بنتيجة النيران العراقية. يقتضي ذلك تعريفهم تعريفا دقيقا بالمواقع الاثرية وضرورة الابتعاد عنها الى مسافات كافية.

انه لمن المؤلم حقاً ان نقرأ كل هذا الكلام عن حماية حقول النفط والجسور والمدن والبنية التحتية، دون ان نجد اي شيء يقال عن حماية مستقبل العراق الكائن في ماضيه.