الوضوح

TT

يصح القول وبدون جدال إن البشرية دخلت منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي عهدَ نهاية المجتمعات المغلقة وبدايةَ عهد الانفتاح والشفافية والوضوح.

ومع ذلك ظلت قوات فكرية وسياسية عبر العالم منكمشةً على نفسها، محيطةً تصوراتها وتصرفاتِها بسياج التكتم، ومعلنةً عن ممارسات ومُضْمِرةً عكسها، فاقدةً شجاعة المصارحة بحقيقة الذات وجرأة اسقاط الأقنعة عن وجهها، وغير قادرة على التأقلم مع متطلبات عهد الشفافية والوضوح.

ووجدت هذه القوات نفسَها مُجبرةً على تقمص جلدَيْن، وتبني خطابين: من جهة بالتظاهر بانخراطها في منظومة عهد الشفافية والوضوح، ومن جهة اخرى بعجزها عن مجاراة منطق العصر الجديد وما يترتب عليه من وضوح الرؤية وسلامة الاتجاه وتنحية الازدواجية عن المواقف والسلوكات والممارسات، سواء في التعامل مع الذات أو التحاور مع الآخر.

لقد سجل التاريخ العالمي عددا من الاحداث أو ما سماها وقائع التاريخ، وحفل بعدد من الأكاذيب وسماها حقائق حتى لقد قال محللون متفحِّصون لأحداث التاريخ: «ان التاريخ أكبر كذَّاب». فعلا ما أكثر من جعل منهم التاريخ عمالقة وهم في الحقيقة أقزام، وما أكثر من قزَّمهم وهم عمالقة. وكل ذلك بسبب عدم توفر الشفافية والوضوح للخبر والمعلومة وهما مصدر التاريخ. وما قام على كذب فهو كاذب.

لقد عشنا ما يناهز عشر سنوات يداعبنا هاجس دخول البشرية في عهد جديد يقوم على اشاعة السلام بين المعمور، ونهاية عهد الحروب والصراعات والتطاحن، وصدقنا أن عهد الاستعمار رحل بكافة أنواعه، وقد قيل عنه انه صُفِّي بجميع جهات العالم وأن ما بقي من جيوبه التي تعد بالأصابع هو في طريقه الى التصفية.

وقيل لنا إن قيم العصر الجديدة تتمثل في اعتماد الحوار والتفاوض السلمي لحل المشاكل وإن هذه القيم أصبحت تتحكم في التعامل الدولي وعلاقات الدول بعد ظهور النظام العالمي الجديد.

وقيل لنا ان السيادة في العهد الجديد لم تعد سيادة الطغيان والحكم الديكتاتوري وسحق الانسان، بل أصبحت السيادة للحريات العامة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي الكرامة والعدل والمساواة.

كما قيل لنا ان هذه الحقوق تطورت وارتقت الى قمة الفضيلة العالمية حيث أصبحت حق الانسان (كل الانسان) بمفهومه الشامل وبصرف النظر عن جنسه وعرقه وانتمائه وهويته، وخاصة حق الطفل والمرأة والمستضعَفين من البشر الذين انتهى عهد قهرهم بالقوة لصالح عهد سيادة دولة الحق والقانون.

وآمنا بما قيل لنا من أن لا شعب سيبقى محروما من التمتع باستقلاله ووحدة أراضيه وتوفير فضاء واسع له من الحريات يستوي في التمتع بها الرجال والنساء، وينتهي بممارساتها عهد الاسترقاق الفردي والجماعي وعهد استصغار الشعوب من لدن قوات الاستكبار في العالم. وما أكثر ما قيل لنا عن انعتاق البشرية وتحررها من نزعات النازية والعنصرية والكراهية! وما أوفر ما حفل به خطاب الإعلان عن ميلاد النظام العالمي الجديد من مثل وأخلاقيات وفضائل وبشائر للإنسانية بأن هذا النظام أتى ليحقق لها أرضية العيش في جنة النعيم الجديدة التي قالت الدول الكبرى انها اعدَّتها لتعويض البشرية عما عانته في ظل النظم البائدة الاستعمارية أو الاستبدادية أو العنصرية أو النازية الفاشية التي ذهبت الى غير رجعة.

وقد نصَّب القطب الأميركي نفسَه على عرش هذا النظام الجديد ولم يتواضع فأعلن أنه منشؤه وصانعه ومبدعه وراعيه وحاميه، وكاد يقول إنه هو نفسه هذا النظام أو على الأقل ركيزته الوحيدة، وأن من الانصاف أن يسجل التاريخ له أن هذا النظام ليس الا مرآة مُثُله واخلاقياته وقيمه. وبالتالي فمن حقه على العالم أن يُسلِم له القيادة ويبايعه ملكا متوجا مطلق التصرف في تقرير مصيره.

ولم يسع العالمَ الا التسليمُ بفحوى هذا الخطاب المضّلل والايمان بأن النظام العالمي الجديد يفتح صدقا وحقا للبشرية آفاق تحررها وينقلها نقلة تاريخية نوعية الى فضاءات الخير والفضيلة والعدل والكرامة والمساواة.

وكانت قضية تحرير الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة من آخر ما بقي من تركة الاستعمار وسيطرة الأقوياء الموروثة عن عهد ما قبل النظام العالمي الجديد فاستبشر العالم خيرا بعودة المجتمع الدولي الى الاهتمام بها والتصدي لحلها بانعقاد مؤتمر مدريد الدولي وبرفع شعار «السلام مقابل الأرض». ثم زادت الآمال تطلعا الى قضية التحرير هذه عندما تبناها ورعاها القطب الأميركي اذ لم ير العالم في ذلك الا عزم الدولة العظمى على أن تحط بثقلها الكبير لفرض تحرير الأراضي العربية على مغتصبها. وحتى عندما تحايل القطب الأميركي ونحَّى منافسيه الكبار عن عملية السلام اعتقد الرأي العام الدولي أنه اراد من استفراد نفسه بالاشراف على العملية ان يوفر لها الجو السليم بالتقليل من عدد المتحاورين حتى يسرع بعملية التسليم بتجنيبها طول النقاش وتشعب التدخلات. وربما تنبه البعض الى سوء نية الولايات المتحدة في الاستفراد بالنجاح ولكنه غفر لها ذلك معتبرا أنها تستحق أن يُكتب لها النجاح اذا ما استطاعت أن تظفر به ما دام هدف تحقيق رفع الاحتلال وفرض التحرير على الغاصب هدفا ذا بال وصعب المنال، ومن الحجم الكبير الذي لا يقدر على الاضطلاع به الا القطب الأكبر ذو الحجم الكبير.

واليوم فالعالم يفاجأ بخيبة مريرة اذ تبخّرت آماله واحلامه واحس بأن خطاب البشارة التي أتى بها القطب الأعظم عن النظام العالمي الجديد اكذوبة وخرافة بعد انتظار استمر عشر سنوات على نشأة النظام العالمي الجديد وعلى انطلاق ما سُمِّي بعملية السلام، وبعدما انتهت اليه من تصميم اسرائيل على حل نزاعها مع الفلسطينيين بتصفيتهم جسديا وابادة شعبهم كليا لتنتهي الحرب بتصفية المحاربين.

وبفضل الشفافية والوضوح المميزين للإعلام التكنولوجي الجديد سقطت الأقنعة. فما نقلته الفضائيات عن طريق الأقمار الصناعية إلى العالم كله عن مشاهد الفظاعة التي جرت على أرض فلسطين أعفت التاريخ من جهود البحث المضنية عن حقيقة الأحداث وجنَّبته الحديث عنها بأسلوب الكذب المعتاد. وها هو يكتب اليوم مستندا الى الحجج المرئية أكذوبة النظام العالمي الجديد وزَيْفَ مثله وقيمه لسبب بسيط هو أن كل شيء فيه ينسبه الى أصله الذي قيل أنه رحل. فهو ليس إلا استنساخا للنظم السالفة التي كانت نظم استكبار القوي على الضعيف.

يكتب التاريخ من الآن وقبل الغد أن عصر الاتصال السريع الذي نعيشه لم يضيع وقتا طويلا في اكتشاف اكذوبة النظام العالمي الجديد. بل تسارعت الأحداث لتعطي صورته الحقيقية التي يبدو فيها وجها للعملة الواحدة مستسلما راكعا للنازية الجديدة التي اسقطته عن عرشه، ويقوم فيه القطب الأعظم مؤسسه وراعيه بالضلوع في مؤامرة مكشوفة على مثله واخلاقياته وسيادة الشرعية الدولية.

والفضل في ذلك لثورة الاتصال والمعلوماتيات التي تعمل في الوضوح والشفافية، وتجعل معاصري زماننا يعيشون الأحداث ساعة وقوعها، ويستخلصون في التوِّ واللحظة عِبَرها ودروسها، ويعطون لها بالنيابة عن التاريخ والمؤرخين دلالاتها الواضحة وتأويلها الصحيح.