لبنان يحتفل.. ولبنان «يجتدل»

TT

احتفل لبنان امس (الاربعاء) بمرور 57 عاماً على الاستقلال عن الانتداب الفرنسي الذي كان قد حل مكان اربعة قرون من الحكم التركي. واستخدام فعل «احتفل» في هذا الباب ليس دقيقاً بل «اجتدل» هو الاكثر دقة. فقد اعترض البعض على العرض العسكري الذي يجري منذ 57 عاماً بداعي ان العروض العسكرية بدعة محصورة بالدول الديكتاتورية. ورأى البعض الآخر ان نقل العرض من مكانه التقليدي امام «المتحف» الى «ساحة الشهداء» عمل رمزي يشير الى عودة السيادة ووحدة البلد. وتظاهرت بعض المدارس بالشارات السوداء، «حداداً» على الاستقلال. وارتفعت درجة الاصوات المطالبة بارسال الجيش اللبناني الى الجنوب. وتداخلت الاصوات التي تناقش الوجود العسكري السوري. وتلاطمت التفسيرات لبنود اتفاق «الطائف» او الدستور الجديد. فهل يكون كل ذلك «احتفالاً»؟

تصادف يوم الاستقلال هذا العام مع مرور سنتين على ولاية الرئيس اميل لحود. وفي البلد ايضاً جدل حول «العهد» او «الحكم». فالبعض يرى عسكراً في كل مكان. والبعض الآخر يرى «الاجهزة» في كل صحن وخلف كل جدار. والبعضان يتحدثان عن «الاشباح» التي لا ترى، كما في حكاية «كاسبر» في الصور المتحركة. ذلك ان كاسبر ينزلق من تحت الباب او من النوافذ المغلقة لانه «شبح» زئبقي قادر على اتخاذ الشكل الذي يريده.

وفي قلب هذا الجدل السياسي الحاد، والمثير للقلق والمعيق، والذي يؤجج الحياة اليومية، ويعطل الحياة العادية، ويقض مضاجع الوطنيين الحقيقيين، ويبعد احتمالات الاستثمار، ويبطل النمو، ويدفع الشبان الى هجرة مريعة يفوق حجمها المرعب اي عملية تهجير مسلحة، في قلب هذا الجدل تزداد الهوة الاقتصادية عمقاً ويزداد الفقر حدة واتساعاً، وتزداد الطبقة الوسطى انحساراً وحصاراً، وبالتالي يزداد البلد يأساً وأسى، فيما يفترض انه يحتفل بالتحرير، من جانب، وبالاستقلال من جانب آخر.

فلنتوقف، اذا امكن، لبرهة قليلة. وانا اعرف ان هذا صعب في لبنان. لكن فلنحاول، في اي حال. عندما جاء الرئيس اميل لحود من قيادة الجيش قبل عامين، كان ثلث لبنان تحت الاحتلال الاسرائيلي، وكانت المقاومة «احراجاً» للكثيرين. وفي قضية الاحتلال، كانت هناك قضيتان: منطقة جزين، والمناطق الباقية من «الحزام». وكان هناك خوف من انه اذا ترك جيش لحد منطقة جزين فسوف تقوم فيها قلاقل لا يعرف احد مداها. وفي اليوم التالي للانسحاب من جزين كان اميل لحود هناك، مؤكداً حضور الدولة وقيام حالة الأمن وعدم الدخول في الفراغ. وقال لأهل المنطقة الذين خرجوا من 20 عاماً من الاحتلال لاستقباله: «اطمئنوا. ما بيصير ضربة كف».

ولم تحدث «ضربة كف». صحيح ان هناك من حاول الردّ على هذا المظهر الوطني المؤثر، بمجزرة القضاة الاربعة في محكمة صيدا، التي لا تبعد اكثر من 40 كيلومتراً عن جزين، لكن رأس الفتنة بقي مدفوناً. وبعد جزين جاء الجلاء الاسرائيلي عن بقية الجنوب. وهنا ايضاً ثارت هموم وطنية عميقة: ماذا سيحدث عندما ينسحب الاسرائيليون؟ كيف ستتصرف المقاومة المنتصرة حيال المتعاملين واسرهم؟ واين هي الدولة تفصل بين الفريقين؟

يكذب من يقول انه لم يخف، في لحظة ما، من ان تتحول فرحة التحرير الى فوضى دموية وغياب للقانون. ومرة اخرى ذهب اميل لحود بنفسه الى القرى والبلدات المحررة. وقال لأهلها: اطمئنوا. ودعا الذين هربوا الى اسرائيل الى العودة: قانون بلدكم ارحم بكم. عودوا. المذنب امامه القانون، والبريء امامه القانون. عودوا. لا تذلوا انفسكم مرتين.

لم يكن عمل المقاومة وحده مهماً، بل كان الاهم من العمل على الحدود، تلك العلاقة التي قامت بين المقاومة ورئيس الدولة بالذات. والقول «رئيس الدولة» وليس «الدولة» هو هنا للتحديد ولاعطاء الاشياء معانيها ومضامينها الدقيقة وابعادها الحقيقية. فلم يكن ممكنناً لمقاومة سرية مسلحة ان تقيم علاقة مع جهات كثيرة او مع حكومة متعددة. وبالتالي كان لا بد من العلاقة مع رأس الدولة والمسؤول الاول. فهو ليس مسؤولاً فقط عن الاعمال التي تتم في الجنوب وانما هو مسؤول ايضاً عن المضاعفات في بيروت وفي الشمال. وعن وحدة البلد. وعن كل بعد سياسي آخر.

في كل تلك المرحلة البالغة الدقة، كان لاميل لحود، اضافة الى صفاته الذاتية وتكوينه الشخصي والعائلي، ميزة اساسية. فهو القائد السابق للجيش الذي عرف من موقعه العسكري معنى المقاومة وظروفها وضرورتها وابعادها وعلاقة ذلك بالواقع السياسي والظروف والتعقيدات الدولية.

غير ان التوافق المطلق الذي قام بين الرئيس لحود وبين المقاومة، كان يقابله خلل في الواقع السياسي. فقد استهدف المعارضون الرئاسة من خلال مواقع الضعف والقوة على السواء. ومنذ اليوم الاول للرئيس في قصر بعبد أُحيط بحملة واسعة. واستطاعت المعارضة توسيع المواجهة بسبب الاداء الحكومي الضعيف. فقد انتقى الرئيسان لحود والحص حكومة غير سياسية على امل كسر الاحتكار السياسي التقليدي، غير انها لم تستطع الصمود في وجه الشراسة التي قوبلت بها حيناً، وبسبب ضعف من تركيبتها حيناً، وبسبب الوضع الاقتصادي الشديد التردي حيناً آخر.

نسي اللبنانيون ان هناك حكومة تحكم، او يفترض ان تحكم، واتجهوا جميعاً نحو «الحكم». فريق يرى (ويعترض) انه يتخطى اتفاق الطائف في ادارة شؤون البلاد ويتعدى صلاحيات الرئاسة، وفريق يرى انه لا «يحكم» كفاية ولا يمارس ما يعطيه اتفاق الطائف من صلاحيات. وفيما كان الرئيس في جزين، او في الجنوب، كانت الخبريات السياسية تُرَكَب حول حبه للسباحة. ودخلت سهرة مرة فسألني احدهم ان كنت قد سمعت آخر «خبرية» حول «البيسين». وقلت له لا، لكن في نشرة المساء اليوم كان يقال ان المرشح جورج بوش يمارس رياضة الركض بعد الغداء، بعكس بيل كلنتون الذي يركض في الصباح وكذلك نائبه آل غور. وقلت له ان ممارسة الرياضة في بلدان الناس ميزة لا تهمة. وفي ايام روما كانت بركة السباحة لزوم الامبراطور. وفي ايام الامبراطورية العثمانية. وفي ايام جاك شيراك! وقبل ليلة واحدة من شن الحرب الجوية على العراق كان جيمس بيكر يفاوض طارق عزيز في جنيف. وبعد ست ساعات طويلة ومرهقة ارتدى ثوب الرياضة وطفق يمشي على حافة بحيرة «الليمان». والرياضة واجب الرجال لا عيبهم.

في بداية عهد الرئيس اميل لحود ذهبت الى بعبدا في واجب التهنئة والتمني. وكان اللقاء خارج الساعات الرسمية. وكلما اطل المرافق ليذكرني بأن الموعد قد طال يومىء له الرئيس بالانصراف. وكان الرئيس الجديد يمتلىء املاً وحيوية. وقال لي: لقد استغرق بناء الجيش عامين. وبعد عامين ايضاً اكون قد حققت المراحل الاولى في بناء الدولة. وقلت له، عفواً يا فخامة الرئيس، لكن الجيش مؤسسة اما الآن فأنت في مواجهة عالم من المجهولين والمعلومين. فالسياسيون بطبعهم وواقعهم ضد المؤسسات، لأنها تأخذ من مواقعهم وتحد منها.

يبدأ العام الثالث من ولاية اميل لحود والجنوب اللبناني حرّ. وفي السراي حكومة جديدة برئاسة زعيم المعارضة السابقة. والتحدي الاقتصادي اكبر واعقد منه بالامس. وكذلك الوفاق الوطني الذي يمرّ، كالمعتاد، في مخاض جديد ومحنة صعبة. ولذلك سمى الرئيس رفيق الحريري حكومته حكومة الوفاق والنمو. وكلاهما متلازم. فلا اقتصاد سليماً من دون سياسة سليمة. ولا نمو وانتاج وازدهار من دون استقرار. فهل لبنان الآن امام الفرصة، ام امام عثرات جديدة؟ هل يترك للرئيس ان يواجه التحديات المصيرية والكبرى التي تواجه لبنان، ام يغرق بالمزيد من اليوميات المملة والمضللة والمنهكة التي تستنزف آخر ما بقي من طاقات لبنان؟