لكي لا يسرقنا النوم .. ويفوتنا القطار!

TT

ليس مفاجئا على الإطلاق أن يجيء بيان قمة الدوحة بالشكل والحجم اللذين طُرح بهما أمام الرأي العام الإسلامي. مثلما ليس بالإمكان الخروج بمواقف أجرأ وأكثر عملية مما خرج به بيان الزعماء العرب في قمة القاهرة. والجميع يعلم بالواقع المهترئ للمنظومة الإسلامية، الذي هو في غير حاجة للشرح والتفسير.. لا بالإطالة ولا التقصير. الغريب فعلاً هو حالة هرولة الرهانات التي انخرطت فيها وسائل إعلام ونخب، وانساقت الشوارع العربية والإسلامية من ورائها لا حول ولا قوة لها إلاّ ترقب 57 دولة وأكثر من مليار بني آدم بمقدورهم فعل الكثير في حسابات التنظيم الدولي اليوم الذي لا مكان فيه إلا بالتكتلات والاندماجات في الإمكانات المادية والبشرية.

أقول إنها فعلاً مفارقة أن نقيم الدنيا ولا نقعدها ونحن تحت وطأة حرب السلام المفروضة اليوم على الاخوة الفلسطينيين، ونملأ الوسائل الإعلامية بأكوام من الكلام والعواطف والأماني والأحلام، ونحن في الوقت نفسه ندرك سلفاً أن أكثر من ثلاثة أرباع العالم الإسلامي يعاني من مشكلات تنموية كبرى في صحة وتعليم وغذاء الإنسان، وفي الحاجات الأساسية الأخرى. والغالب الأعم من الدول الإسلامية يقتات على برامج الإعانات والإقراض الأجنبية ومداخيل وطنية تحت سقوف ما يعرف بمنحنى إمكانات المجتمع، ناهيك من النزاعات العرقية والحدودية، والمشكلات السياسية، القائمة والنائمة، في ما بين العديد من دول المنظومة الإسلامية، التي استنزفت، ولا تزال تستنزف، الكثير من قليل المقدرات الاستراتيجية والثرواتية للشعوب.

يبدو، والله أعلم، أننا بُلينا بمرحلة متقدمة جداً من الضحك على أنفسنا، وإن كنا نعرف كل هذا البؤس المطبق علينا. فالمسألة بالنسبة لنا لا تعدو كونها ضرباً من التطمين، وشكلاً من أشكال التماهي مع الواقع بمنطق الدروشة، وهي في النهاية أسلوب عملي جداً للتنفيس عن إحباطاتنا ولاستعادة توازننا الآدمي بدرجة أو بأخرى.

واضح ان العالم الإسلامي يتعاطف مع ما يحدث الآن لأبناء الشعب الفلسطيني، وواضح أيضاً أن شوارع العواصم الاسلامية من جاكرتا وكوالالمبور وإسلام أباد... الى كابول ودار السلام وطهران، كلها مع الحق الإسلامي في المدينة المقدسة ومع حق الفلسطينيين في وطن سيادي وحر. وواضح كذلك ان هذا أقصى ما يمكن ان نطلبه في الوقت الحالي، وبحكم الظروف الحياتية والمؤسسية الصعبة للغالب الأعم من دول العالم الإسلامي، وهي ظروف أخذت تدفع بعض الزعامات الاسلامية في الشرق الآسيوي لتفكير براغماتي لا يرى أية مبررات من أي نوع، حتى وإن كانت القدس التي لا تمثل للبعض أكثر من بعد تاريخاني بالإمكان تجاوزه بحلول توفيقية أممية لا تحول دون مدّ جسور المصالح آلاف الأميال نحو وادي السليكون الجديد، واقتصاديات التقانة المعلوماتية الفائقة في تل أبيب.

ولعل تلويح قمة الدوحة بالمقاطعة الاقتصادية والتجارية وإلغاء الاتفاقات وقطع العلاقات مع كل دولة تقدم على نقل سفارتها لمدينة القدس، كان في ظل كل هذا إنجازا مهما، ليس فقط لإفهام إسرائيل وأميركا صلابة الموقف الإسلامي وتوحده في مسألة القدس الشرقية كعاصمة للفلسطينيين، وإنما أيضاً لأنه توجه جاء في وقته للحد من تنامي هذا التفكير البراغماتي نحو إسرائيل، الآخذ في التمدد في رؤوس العديد من الحكومات الإسلامية التي أصبحت تراهن على مصالح مع الكيان الإسرائيلي في السنوات الثلاث الفارطة، لتتجاوز بمجتمعاتها أحوال الشقاء والاضطراب السياسي والاقتصادي. ولا أظن أن هناك عاقلاً واحداً لا يقول بأهمية التلويح بأدوات المقاطعة والعودة لقوائم الحظورات التجارية والاقتصادية في هذا الاتجاه لتصحيح الفهم المتسرع المتجاوز لدى بعض الزعامات الإسلامية التي تتعاطى اليوم بواقعية السوق وسباق المصالح مع إسرائيل تحت بند ان أصحاب القضية يتحاورون وجهاً لوجه مع أعداء الأمس، وان المسألة هي مسألة وقت فقط وتتغير الخارطة لحسابات مصالحية صرفة أياً كانت نتائج معادلة السلام.

وبكل صراحة، لنكن صادقين مع أنفسنا، وبعيداً عن أدوار الآخر المناوئ وعن الظروف التي صارت علينا أكثر من كل شعوب الأرض، أوليس في واقعنا الكثير من العلل والمزايا التي أسهمنا بأيدينا وبرؤوسنا في تحضيرها بوعي أو بدونه منذ خروج معظمنا من تحت عباءة المستعمر، ومروراً بمنعطف ما سمي بالمشاريع المدنية، ونهاية بالوضع المتردي والعاثر الذي بلغته مؤسسات القرار العربي في قضاياها الوطنية والقومية؟

ولئن كنا اليوم نواجه مأزق القدس متزامناً مع حصار وبطش دموي لجنرالات تل أبيب حصد حتى الآن أكثر من 250 شهيدا من أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل، فلرب ضارة نافعة، فلعل وعسى يوقظ فينا مأزق القدس مسؤولية إعادة تأهيل أوضاعنا المؤسسية العربية، والبدء بترتيبات استصلاحية تجسّد عملياً خطابات التقارب والتعاون العربي وفق برامج خمسية أو عشرية تهيئ لولادة منظومة وحدوية تكاملية تخدم مصالح المواطن العربي، وتدفع بنا بشروط العولمة الاقتصادية والصناعية المعلوماتية والعقول والأيدي المدربة لمرحلة الشراكة الفعلية التي تفسر آمالها حسابات السياسة المؤقتة ورهانات نجومية السلطة داخل الأقطار، لتحل في مقابلها أولويات النمو المؤسسي والبشري الحقيقية لواقع عربي منتج.

الشارع العربي اليوم يطالب حكوماته بتفكير يليق بمرحلة التحديات التي تواجه الأمة الآن، بدءاً من تحدي جنرالات تل أبيب.. ونهاية بتحدي الأحلام المؤجلة في رؤوس الملايين من العرب التي خلقت لنا أجيالا لا تعرف الانتماء ولا الحب، وأكثر جاهزية بحكم عدائها المجتمعي المتنامي للتحول لأدوات قاتلة ومدمرة لنظمها الاجتماعية والحؤول دون حراكها ونموها الطبيعي. مسألة انتظار ما لا ينتظر من أقوياء العالم الحر ليمنحونا فرص الوجود المشرف ويهبونا حقوقنا التي أضعنا. مسألة انتحار بطيء لكل مكونات الهوية العربية، ورهان خاسر لا محالة بحكم عقيدتنا ومرجعيتنا الثقافية المفارقة لتكوين الآخر الذي يتزعم العالم اليوم. فالعمل من أجل واقع عربي منتج ومؤثر في حسابات الآخرين، قبل أن يكون مؤثرا في حساباتنا المادية والبشرية، من المؤكد أنه هو الطريق الأوحد ليس فقط للبقاء في هذا العالم، وإنما لاستعادة حضور وحقوق فارقتنا عندما أخذنا النوم وغادرنا القطار.

السؤال الذي يطرح نفسه، أو بالأصح يطرحه الشارع العربي اليوم أمام مؤسسات صناعة القرار السياسي في منطقتنا، يعكس فعلاً مسألة البدائل الاستراتيجية والخيارات العملية التي من الممكن والمتاح الأخذ بها، فيما فكرة وعملية السلام تحتضران الآن على ايدي جنرالات تل أبيب منذ كامب ديفيد الثانية وصولا لتيار الحصار والتقتيل وحصد أرواح المدنيين الفلسطينيين، الذي دقّ المسمار الأخير في نعش السلام ونسف من عقول ونفسيات العرب كل عمليات الترويض للذهنية الرفضية للوجود الإسرائيلي طيلة سنوات التفاوض الفارطة! السؤال الآن، تحديداً، ما الذي سيكون بمقدور العرب الأخذ به وعملية السلام تلفظ انفاسها الأخيرة مع كل رصاصة وقذيفة يتساقط معها مئات الأبرياء من أبطال الحجارة؟

صحيح أننا أضعنا الكثير من الوقت في انتظار صحوة ضمير الأقوياء وعدالتهم الحقوقية المرتجاة، من دون أن نعي حقيقة نسبية الأشياء وذرائعيتها في عالم الأقوياء، أصحاب الحسابات المتناهية الدقة في واقعهم. لكن لا يزال هناك متسع من الوقت لصناعة واقع ينتزع احترام الأقوياء، ويجلب تقدير الأنداد، شريطة ان نبادر للفعل المخطط بحجم مشكلاتنا التنموية على الخارطة العربية، وباستراتيجية تكاملية تتضافر فيها الإمكانات المادية والثرواتية والبشرية، وبتنويع أرضية المصالح مع قوى الشرق والغرب دونما ارتهان يسلبنا المقدرات والخصوصية بدرجة أو بأخرى. واقعنا العاثر اليوم لا فكاك منه إلا في حالة اقتناعنا بأن التغيير أولوية، وان العمل مسؤولية علينا أن نقوم بها نحن، لا الآخرون بالنيابة عنا. ولن تنعتق الأجيال القادمة من انكسارنا الراهن في ظل حسابات مؤسسات القرار العربي القطرية الضيقة التي أشبعت التحولات في المجتمع الأوروبي عجزها عن أن تفي بشروط عالم اليوم.

حقا، من أجل أن لا يسرقنا النوم، وحتى لا يفوتنا القطار، فان واقعنا العربي بحاجة إلى زعامات لا تستوعب مسؤولية الظرف والشروط الحاليين فحسب، بل تكون قادرة في الوقت نفسه على الحركة في اتجاه يختزل الحدود ويلغي التخوم، ليس بالشعارات والخطابات، وإنما ببرامج اجتماعية كبرى تطال المؤسسات والأفراد... بطول العالم العربي وعمقه.

*كاتب سعودي