الدولة الفلسطينية ليست حلا

TT

ما يبدو ظلاماً هذه الايام تأثراً بالعنف والارهاب الاسرائيلي في فلسطين، يحمل في طياته (والله اعلم) ميلاد الدولة الفلسطينية التي ستكون مشوهة سواء جاءت باتفاق فلسطيني ـ اسرائيلي، او بقرار احادي، قد يكون فلسطينياً او حتى اسرائيلياً... ضمن هذه الرؤية فإن الميلاد السريع للدولة لن يؤدي للسلام، ولا حتى للهدوء او للهدنة.

هذا التوقع ـ ميلاد الدولة، والاستنتاج ـ وتواصل الصراع، لاعلاقة لهما برؤية الغيب والتنجيم وانما تحصيل حاصل لما نسمع ونرى ونشم لطبخة غريبة العناصر والمكونات. التصعيد اليومي من القوات البرية والبحرية والجوية والاستخبارية الاسرائيلية يراد منه افهام الطرف الفلسطيني ان الحل العادل والتعايش المتساوي لن يوجد بين الطرفين بعد هذا التصعيد القابل للزيادة. الرسالة ذاتها موجهة الى المستوطنات، بأن الجيش لن يحميكم للابد في هذا الجو المعادي، وكلما اسرعتم بتقبل الانسحاب فذلك افضل للجميع خصوصاً الانسحاب للتجمع في مستوطنات اكبر واقرب على حدود يونيو/حزيران (الخط الاخضر). يترافق التصعيد مع المزيد من الحديث الاسرائيلي عن رفض القيادة الفلسطينية للسلام ولوقف القتال، والحديث الاسرائيلي عن الموافقة المبدئية على قيام دولة فلسطينية ضمن ما طرح في قمة كامب ديفيد... وبالتالي اذا استمر الرفض الفلسطيني (حسب الدعاية والرؤية الاسرائيلية) فإن اسرائيل ستنسحب من طرف واحد من دون اتفاق من المناطق المناسبة لها، وبالتالي يمكن للفلسطينيين اعلان دولتهم في الجزء المتبقي! ويمكن لاسرائيل ادعاء ان الفلسطينيين يرفضون السلام وانها ابتعدت عنهم ولكنها ستعاقبهم بشدة اذا اعتدوا عليها. كما هو واضح منذ سنوات فإن المسار السلمي للحل مرتبط بالرؤية وضمن الاطار الاسرائيلي، واصبح سقف المطالب العربية والفلسطينية هو استعادة الارض المحتلة عام سبعة وستين وتطبيق قرار الامم المتحدة بعودة اللاجئين، ومن الطبيعي ان تساوم اسرائيل على هذه المطالب كما تجلى في كامب ديفيد الصيف الماضي وكادت الصفقة ان تتم لولا تعثرها ازاء قضية القدس. وما تفعله اسرائيل الان من ارهاب هو لاخضاع الموقف الفلسطيني لرؤيتها في حل شأن القدس، وتوضيح محدودية التأييد العربي... لهذا تقصف وتقتل وتروج الدعايات وتشن الحرب النفسية وتؤلب العالم، كما انها تجوع الفلسطينيين وتمنع وصول الدعم الغذائي والطبي العربي اليهم والمكوم في مطار العريش، ذلك حتى اذا عادت في النهاية المفاوضات ستبدو الحلول القديمة المرفوضة، كانجاز للاسرائيليين وكاستقلال للفلسطينيين وكسلام امام الجميع. ماذا اذاً لو تم الاتفاق على حل، او على تأجيل حل قضية القدس (مجرد افتراض) وبالتالي التوصل لاتفاق اعلان دولة فلسطينية؟ هذه الدولة لن تكون على كل اراضي الضفة والقطاع. هذه الدولة لن تتحكم في المعابر والحدود مع الدول العربية المجاورة، ولن تملك حرية استعادة مواطنيها من الخارج... كل ذلك حسب ما نوقش في الكامب وتعثر بسبب القدس. في الكامب ايضاً لفقت قضية عودة اللاجئين بعيدأ عن مسؤولية اسرائيل، وبدون حق العودة، وانما الاقتصار على حق التعويض حسب رؤية اسرائيل. الدولة الفلسطينية اذاً ستبنى وتعمل في اطار الهيمنة الاسرائيلية المباشرة، وان كتب الله لها النجاح والدعم الاقتصادي ثم حصلت مشكلة مع اسرائيل فإن ذلك كله سوف يُقصف ويُدمر كما حصل مع لبنان ومع السلطة الفلسطينية هذه الايام. سيكون على الفلسطيني ان يسكت ويخضع للمستوطن في الضفة والقطاع، وللجندي الاسرائيلي على الحدود وفي المعابر، وسيكون على جهاز التعليم والدبلوماسية والسياسة والشرطة والاقتصاد والاعلام الفلسطيني ان يكيف ذاته مع الرغبات الاسرائيلية حتى لا يزعجهم ولا يتسبب في جلب العقاب، كما يحدث هذه الايام من ترهيب للناس وهدم للمؤسسات ونسف للبنى التحتية ضمن سياسة عقاب جماعي غير منطقية، ناهيك من شرعيتها وقانونيتها الدولية. اذا لم يتم الاتفاق حول القدس وبالتالي لم تعلن الدولة باتفاق الطرفين، فعلى الارجح ان اسرائيل ستنسحب من بعض المناطق المحتلة بحجة فك الاشتباك، وقد تفكك بعض المستوطنات لكسب الرأي العام العالمي، وبالمقابل تطلق التحذيرات بان العدوان الفلسطيني على اسرائيل او جيشها او مواطنيها سيواجه بأشد انواع القمع. المهم ان الكيان الفلسطيني، او الدولة اذا اعلنت وبسكوت اسرائيل في تلك المناطق.. هذه الدولة لن تشرف على حدودها وارضها واقتصادها وحركة مواطنيها الداخلية والخارجية، وستبقى عرضة للضرب وعاجزة عن الرد.

النتيجة كما نرى ان الدولة الفلسطينية المتفق عليها، او الدولة المسكوت عنها اسرائيلياً بعد الانسحاب من دون اتفاق، او الدولة المعلنة من الفلسطينيين نظرياً على كل الارض المحتلة في حزيران وعاصمتها القدس... أي من هذه الاشكال، لن تجلب معها الحل ولا السلام ولا حتى الهدنة. الحل الانسب لاسرائيل اليوم قبل غد هو الانسحاب الفوري والتام والواضح من كل الضفة والقطاع وتسليمها للدولة الفلسطينية والعودة لمفاوضات حول الشؤون المعلقة. ذلك الحل قد يخدم اسرائيل محلياً وعالمياً، اذ سيدفع بالدولة الفلسطينية لتجنب الاثارة، والى الاهتمام بالتنمية، وتحمل المسؤولية امام مواطنيها والعالم. في المقابل فإن الطرح الافضل للفلسطينيين الان، كما هو بالامس وغداً، ان يطالبوا بقرار التقسيم لعام سبعة واربعين. هذا القرار ـ الحل ـ جاهز ومفصل بالسنتيمتر، ومتفق عليه دولياً ولا يحتاج الى مفاوضات وتفاصيل وانما يحتاج للتطبيق فقط بإشراف دولي. ويحل قرار التقسيم كل المشاكل مثل القدس، والعودة للاجئين، والتعاون الاقتصادي... بل يمكنه حل قضية المستوطنات ايضاً، وبالطبع فهذا القرار هو شرعية اسرائيل الدولية التي ارتبطت الموافقة عليها بقيام الدولة الفلسطينية ايضاً. قد يبدو غريباً جداً هذه الايام بالتحديد طرح قرار التقسيم كحل مثالي بينما اسرائيل ترفض الحلول الاخرى الاهون عليها، لكن الحقيقة هي ان الاسرائيليين والفلسطينيين لن يمكنهم التملص من التعايش السلمي، وحل التقسيم هو الافضل لمثل ذلك التعايش لانه يقسم السيادة السياسية والقانونية في فلسطين الطبيعية ويحافظ على حقوق الافراد من الطرفين.

الحلول الاخرى هي الاعيب سياسية لا غير، ومعظمها وهمي تماماً، وكلما انتقص الحل المقترح (فلسطينياً او اسرائيلياً) من الحقوق الفلسطينية فهو لا يقرب الاطراف من السلام وانما يعمق الهوة ويعقد الفرص والمستقبل. ان العالم كله مثلاً يعرف ان طروحات الجنرال باراك كلها اكاذيب صافية، ولكن الحل السياسي يسكت بعضهم ويدفع بعضهم الآخر للانجرار في مهزلة التوسط للتفاوض... باراك لا حكومة لديه، ولا أغلبية برلمانية، ولا حزب يؤيده، ويكذب على من هب ودب في كل مكان... هو غير مخول بالتفاوض، وغير قادر على تمرير أي حل، ويريد الكرسي، وبالتالي يريد اخضاع الفلسطينيين الى حل يوافق عليه كل اليهود ليعيدوا انتخابه رئيساً للوزراء. هو بذلك لا يخدم حتى مصلحة اسرائيل الحالية او المستقبلية، ناهيك من مصلحة السلام والمنطقة.

القصف والتدمير الحالي لا علاقة له البتة برفض الرئيس عرفات الجلوس للتفاوض، او بعملية عسكرية ضد مستوطن، وانما القصف والارهاب نتيجة لضعف موقف الجنرال ولرغبته الاحتفاظ بالكرسي... هو الذي هدد وطبق بعد كامب ديفيد، بان الرفض الفلسطيني لطروحاته سيواجه بالقوة والاخضاع، وسانده الرئيس كلينتون بالتهديد بنقل السفارة وقطع المساعدات الاميركية عن السلطة وبحشد العالم ضد الفلسطينيين... هذا ما قالوه علناً وهاهم يطبقونه، ثم يدعون بأسباب يومية متجددة تضع اللوم على الفلسطينيين وتبرر ضربهم لاخضاعهم. الكارثة ان أياً من حلول باراك وكلينتون اذا طبقت، ولو برضاء القيادة الفلسطينية، فإنها ستؤدي الى مصائب عاجلة وأخرى مؤجلة اكبر بكثير مما يحدث الان.

ان ما يحدث الان يجب ان يكون بداية للعمل من اجل التعايش في كيانين متعادلين تطبيقاً لقرار التقسيم، وليس نهاية لمسيرة النضال بحل منقوص ذات عنوان ضخم «دولة فلسطينية» لن تملك قرارها وتبقى حتماً، حسب تكوينها وميلادها وتربيتها، اسيرة للهيمنة والابتزاز والمزاج الصهيوني. لقد فشلت الحلول من نمط اوسلو لاسباب اصبحت معلومة، والانخراط في حلول ومفاوضات مشابهة سيؤدي لمزيد من الفشل، والمخرج هو البحث عن الحلول المتقدمة ومنها قرار التقسيم، او طبعاً التعايش لشعبين في دولة واحدة وبحقوق متساوية لكل مواطن على غرار عشرات الدول التي تضم عدة ديانات واعراق من دون تمييز. أي حلول اخرى تنتقص البشر حقوقهم وانسانيتهم ستكون بمثابة الغام سريعة ومتكررة الانفجار. ان الحلول العادلة، سواء كانت بالاستقلال او بالتعايش المنصف والمتعادل، وكما يعلمنا التاريخ القديم والحديث، تحققت بالكثير من البذل والتضحية وعلى ضوء وضوح الهدف سلفاً... واذا كان طريق الاستقلال طوله كيلومتر فإن النضال الفلسطيني المشتت لم يتجاوز الامتار العشرة الاولى حتى الان، لا في الخسائر الاسرائيلية ولا في التضحيات الفلسطينية... انظروا الى تضحيات الجزائر وخسائر فرنسا، والى فيتنام واميركا والى جنوب افريقيا طبعاً.