صورة الجدل الفكري في فرنسا مطلع الألفية الجديدة

TT

قبل زيارتي لباريس أواخر شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، التي تزامنت مع وقت «الدخول» كما يسميه الفرنسيون، حرصت على قراءة رواية «الجزيئات البسيطة» لميشيل هوالبيك التي أثارت ضجة كبيرة عند صدورها أواخر العام 1998، واعتبرها النقاد عملاً روائياً استثنائياً وجديداً في مضمونه وأسلوبه، ومؤشراً لولادة شكل روائي جديد، يقطع الصلة مع جميع الأشكال الروائية السابقة، بما فيها تلك المتصلة اتصالاً وثيقاً بالحداثة، وما بعد الحداثة، وعليّ أن أعترف ان تأخري في قراءة الرواية المذكورة عائد الى عدم تحمسي لقراءة الاعمال التي تثير لغطاً كبيراً عند صدورها، وعادة ما انتظر هدوء العاصفة لكي أفعل ذلك، وهكذا كان الحال مع «الجزيئات البسيطة» لميشيل هوالبيك. إذ انني انتظرت سنتين كاملتين قبل ان افتحها، وكان ذلك قبل أيام قليلة من ذهابي الى باريس، وعند انتهائي من قراءة الرواية، أصبت بنوع من الخيبة، التي وجدتها دون مستوى الاستقبال الصاخب الذي خصت به، وفي ما عدا طابعها الاستفزازي الذي تميزت به من البداية وحتى النهاية، فانه يمكن القول انها رواية عادية شكلا ومضمونا ويبدو ان صاحبها ميشيل هوالبيك المولود عام 1958، أراد ان يصفي حساباته مع والدته التي يقال انها كانت من جماعة «الهيبس»، فصب جام غضبه عليها وعلى جماعتها، معريا خواءها وخواءهم الفكري والعاطفي، راسماً لها ولهم صورة مقرفة ومقززة، ولم يتوقف ميشيل هوالبيك عند هذا الحد، بل صوب رصاصات غضبه الى قلوب ثوريي 68، ساخراً من شعاراتهم ومن أحلامهم، كاشفا لنا عن سقوطهم الاخلاقي والسياسي والفكري، الآن وقد بلغوا سن الخمسين أو هم تجاوزوها وباتوا يجرون اجساداً انهكتها الأوهام والانكسارات، متهالكين على الملذات الرخيصة والسريعة بغية نسيان شبح الشيخوخة الهاجمة بشراسة الذئب الجائع. ويبدو ان هذه العناصر مضافا اليها الطابع الاستفزازي والجرأة، هي التي ساعدت رواية «الجزيئات البسيطة» على اختراق المشهد الثقافي الفرنسي الذي يعاني منذ اختفاء الكبار في العقود الأخيرة من القرن الماضي، من الكساد وضعف الانتاج الفكري والفلسفي والروائي والشعري، مقارنة بالفترات الذهبية التي عاشتها باريس، والتي تميزت بزخم ابداعي هائل في جميع مجالات الأدب والفلسفة والفن. ومن الأكيد ان وسائل الاعلام بمختلف انواعها وأشكالها وجدت في رواية ميشيل هوالبيك ما يساعدها على بعث نوع من الحيوية في المشهد الصامت والحزين، فاطلقت العنان لوسائلها الدعائية لكي تحول الرواية المذكورة الى حدث ثقافي مهم، وقد نجحت في ذلك نجاحاً كبيرا حتى ان صاحبها، ميشيل هوالبيك، أضحى نجم الموسم الثقافي الفرنسي بين عامي 1998 و1999.

وخلال اليوم الأول من وصولي الى باريس، تجولت في الحي اللاتيني، ومقاهيه الشهيرة، التي كان يرتادها مشاهير الادباء والفنانين والشعراء من أمثال جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار واندريه بروتون وجان جينيه وبول ايلوار ولوي اراجون وجان كوكتو وغيرهم من الذين صنعوا مجد فرنسا الثقافي، سواء كانو من ابنائها أو ممن جاءوا اليها من بعيد لتصبح لهم موطناً ومأوى، فلم أعثر إلا على القليل القليل من الق الماضي البهيج. فلقد فقد «الحي اللاتيني» رونقه القديم الذي كان واضحاً للعيان يوم جئت الى باريس أول مرة وكان ذلك مطلع الثمانينات، وامتلأ بمحلات الوجبات السريعة «الهامبورجر» وغيرها. وامتلأت المقاهي الشهيرة في جادة «السان جرمان» بعجائز مغرمات بتربية الكلاب، يتحدثن في شؤون الفن دون معرفة به تماماً مثل عجائز ت. س. اليوت في رائعته «أغنية الفريد بروفروك»، ونساء في منتصف العمر يعشن على ذكريات ماض ولى وإلى الأبد وبدجالين وغوغائيين وأشباه مثقفين يثرثرون الى حد وجع الرأس، حتى البير قيصري، الذي كتب كل أعماله عن القاهرة التي عاش فيها طفولته وجزءاً من شبابه قبل أن يجيء الى باريس لم يعد باستطاعته ان يكون شاهداً على الماضي المجيد فإنه فقد النطق اثر العملية الجراحية التي أجريت على حنجرته وأضحى يكتب طلباته على الورق لجرسون مقهى «لي دو ماغو». مع ذلك هناك بعض «الديناصورات» لا يزالون يعتقدون ان بامكان باريس ان تسترجع حيويتها الثقافية والفكرية التي تميزت بها في فترات مختلفة من القرن العشرين، ويعد فيليب سولرس، الروائي والناقد أحد أبرز هؤلاء. وهو يرى ان العالم يعيش فترة تحولات كبيرة على جميع المستويات مطلع الألفية الجديدة، ولا بد من الانتباه لذلك انتباها شديداً. كما انه يجدر بنا ألا نخشى المغامرة التي تفرضها علينا مثل هذه التحولات التي لم يسبق لها مثيل، خصوصاً على مستوى التكنولوجيا والمعلومات ووسائل الاتصال. ويضيف فيليب سولرس قائلاً: «ثمة بيت شعري لهولدرلين يقول: «هناك حيث يكبر الخطر، يكبر أيضاً ما يمكن ان ينقذ ويغيث»، ان هذا البيت الذي انشغل به هايدجر كثيرا يضعنا في قلب المسألة. ما أنا آسف له هو انه بامكاننا ان نعثر على اطنان الخطب حول تنامي المخاطر والأهوال، لكننا لا نجد مقابل ذلك إلا القليل القليل من الخطب التي تبشر بالخلاص في حين ان ما يمكن ان ينقذنا هو بنفس مستوى ما يمكن ان يهدد وجودنا وحياتنا، علينا ان نتكلم حول ما نحب، والشيء المؤسف هو ان الكتاب راهناً لا يتحدثون عما يحبون»، ويرى فيليب سولرس انه يتوجب فتح نوافذ جديدة بهدف الخروج من الأزمة الثقافية والفكرية التي تعيشها فرنسا راهنا وانه يتعين على الفرنسيين تجنب الاطروحات الغامضة، وتلك التي توهم الناس بأنه يتوجب عليهم بذل جهد فكري خارق لفك الغازها ومعانيها، كما انه يعتقد ان تمجيد الذات لدى الكتاب ليس دليلاً على أنانية مفرطة، وفي هذا السياق هو يقول: «لماذا نسمع كل يوم، وكل ساعة ادانة للمثقف على انه أناني؟، في خضم الدعاية الحالية، هناك منع ان يكون المثقف ذاته، وهذا شيء معيب ومقزز، وما أخشاه هو ان يمتثل عدد كبير من الناس لهذا المنع ولهذا التحريم، ويكفون عن التحدث عن ذواتهم لينصرفوا كلياً الى نظرة ألمية (من الألم) للعالم، كما لو ان الألم يساعد على التفكير أكثر من السعادة!»، ومقيماً للحاضر من خلال الماضي، يقول فيليب سولرس: «لم يكن القرن الثامن عشر فرنسيا فقط بل أوروبيا كاثوليكيا، والآن نحن نفلت من غطاء الرصاص هذا، لكي نربط الصلة مع تراث القرن الثامن عشر، ونعثر على فلسفة الانوار التي كانت باريس عاصمتها دونما شك (...).

لقد تحدثت ذات مرة عن «فرنسا العفنة»، وهذا يعني ان ثمة شيئاً وقع لجمه وتعطيل حركته، باختصار ثمة شيء راكد منذ عقود عديدة، وهذا يعني أيضاً ان هذه الخميرة السلبية على صلة بالنسيان، الذي يعاني منه القرن الثامن عشر، وعندما قمت بادانة «فرنسا العفنة»، لم يكن هدفي غير الدفاع عن فكرة الحرية التي وضعت بين ظفرين منذ أمد طويل».

ويعتبر آلان فينكيلكراوت، واحداً من أهم المفكرين حضوراً في المشهد الثقافي الفرنسي ومن اشدهم التصاقاً بالأحداث الفكرية الساخنة، التي تعيشها فرنسا والعالم، تدل على ذلك المؤلفات التي أصدرها خلال العقد الأخير من القرن الماضي مثل: «الانسانية الضائعة» (1996) و«نكران الجميل» (1999) و «صوت يأتي من الضفة الأخرى» (2000). وراسماً صورة للمشهد الثقافي الفرنسي راهناً، يقول آلان فينكيلكراوت: «كنت اعتقد انه مع نهاية الشيوعية، سوف يتمكن المثقفون من اكتشاف السياسة من جديد، ومعها التنوع المثير للعالم الانساني. يتوجب عليّ راهناً ان أخفف قليلا من غلوائي. عوضاً عن السياسة، كثيرون هم المثقفون الذين يواصلون نشر رؤية اخلاقية متفرعة ثنائياً عن العالم. (...) ان المدافعين عن المجتمعات الليبرالية والمعادين لهم يلتفون اليوم عند مبدأ الدفاع عن حقوق الانسان. فباسم حقوق الانسان، نمجد الديمقراطية، وباسم حقوق الانسان نحن ندين ونشنع بها»، ويواصل آلان فينكيلكراوت حديثه في نفس السياق قائلاً: «منذ عام 1968، ونحن نعيش تحت نظام «أنا لا أعرف لكن مع ذلك» أنا أعلم جيداً انه ليس هناك خطر فاشي، وأعلم ان العداء للسامية يتضاءل يوماً بعد يوم في بلادنا لكن مع ذلك أرى انه شيء لطيف ان أعتقد عكس ما ذكرت، وانه شيء جميل ومجز ان افر الى البساطة البطولية خوفاً من مواجهة المشاكل الحقيقية للواقع والحياة»، ويرى آلان فينكيلكراوت ان معاداة العنصرية عنصر أساسي للحفاظ على الديمقراطية ذلك ان العنصرية يمكن ان تفجر العنف في أي حين حتى في قلب تلك البلدان التي تعتقد انها أصبحت في مأمن من الحروب. لذا من الضروري في بلد مثل فرنسا، تتعايش على أرضه اديان وثقافات مختلفة ان يركز المثقفون والمفكرون جهودهم على دفع الناس الى نبذ العنصرية بجميع أشكالها وأنواعها.

ومجيباً عن السؤال التالي: هل ثمة امكانية توفر جدل فكري وثقافي في فرنسا، يقول الكاتب والناقد جان دو مريسون: «ان هذا السؤال يبدو منذ البداية وكأنه سؤال استفزازي فهل معنى هذا السؤال ان فرنسا أقل حرية من البلدان الأخرى المحيطة بها أو البعيدة عنها؟ وأين تتنقل الأفكار بكل حرية، وبكل يسر ان لم يكن ذلك في فرنسا؟ سياسيا وثقافيا واقتصاديا وعسكريا، فقدت بلادنا المرتبة الأولى التي تعودنا عليها فترة طويلة من الزمن، والشيء الأخطر من كل هذا ان اللغة الفرنسية التي كانت تهيمن على العالم بأسره ما فتئت تفقد مواقع جديدة يوماً بعد يوم. أما في مجال تبادل النظريات والاطروحات والأفكار، فإنه يمكن القول بأننا لا نخشى أحداً، الوقت ليس بعيداً عندما كان الجدل محرماً في روسيا والمانيا. اليوم هو كذلك في بلدان عديدة مثل ايران وكوريا الشمالية والصين وأغلب بلدان افريقيا والعالم العربي، لذا يمكن القول اننا نعيش في أكثر البلدان حرية منذ خمسين عاما، وجميع الحكومات التي تعاقبت سواء كانت يمينية أو يسارية احترمت حريات الافراد والجماعات»، ويعتقد جان دو مريسون ان المجتمع الفرنسي، مثل المجتمعات الأخرى، يخضع حاليا لمجالات ثلاثة: المدرسة والصحافة والراديو والتلفزيون، وبسبب التطور الهائل لوسائل الاتصال والمعلومات، أصبح عالم الصورة أشد تأثيراً في الناس من العالم الواقعي وبسبب هذه التحولات الجديدة على المستوى العالمي يرى جان دو مريسون ان حرية الجدل تتضاءل يوما بعد يوم. لكن ما هو مهم في نظره هو ان نتجادل مع من يتناقض معنا بشكل جذري. وهذا ما يجب تشجيعه وتقويته لبعث الحياة في المشهد الثقافي الفرنسي، وانعاش الجدل الفكري من جديد في فرنسا.