رصاصة واحدة في قلب القصيدة

TT

لا يتسع المجال للإتيان على ذكر أولئك الذين تعرضوا الى صنوف العذاب والتنكيل بسبب مواقفهم الشريفة، فهم كُثر.

.. ولكن نكتفي بذكر لمحات مما جرى لشاعر روسيا العظيم: الكسندر بوشكين الذي تعرض لأحقر مؤامرة، جعلته يغادر الحياة، وهو في السن التي يعتبرها مؤرخو الفن والأدب، سن العطاء. السن التي يتم فيها نضج المبدع، وتستعد الدنيا لاستقبال روائعه.. مات بوشكين.. والأصح أن نقول قُتل من أجلها!! من أجل ناتاليا نيكولا جوشاروفتا.. مات من أجل زوجته التي استخدموها وسيلة لإذلاله!! ولأنه رفض أن يكون شاعراً للقصر، ولم يبع عبقريته إلا للوطن وللعالم، ولم يكن يملك خياراً يحول بينه، وبين الخدمة في بلاط قيصر روسيا، فحظي بلقب شريف، لكنه كثيراً ما كان يكتب شعراً يعبر فيه عن مآسي التعساء والبسطاء من العمال والفلاحين..

لقاء مع القيصر

عندما نشرت له قصيدة بعنوان «الفلاح» التي يقول في مطلعها:

«ألق بنظرك إلى هذا المشهد

ترى اكواخاً بائسة هنا وهناك

وراءها أرض سوداء

ملئت بالأخاديد والمنحدرات

وقد عقدت في سمائها غيوم رمادية كثيفة

فأين أنت يا نهر النيفا الكبير؟.. الخ..»

ولم يرض القصر بالقصيدة، فاستدعى على أثرها بوشكين لمقابلة القيصر، وما أن وقف بين يديه، حتى فاجأه بالقول:

أيها الشاعر النبيل، قصيدتك هذه، تنم عن موهبة فذة، واني ادعو الله ان تكون العبقرية التي ينتظرها الناس منك لتعوضهم بها عن شاعرنا الكبير (درجافين)، كما اني اتمنى لو أنك تعالج بشعرك موضوعات هي اقرب الى الحقيقة بدلاً من هذا الخيال الجامح. واني لعلى ثقة يا بوشكين انك ستنتهج في شعرك سياسة جديدة تهدف الى خدمة الدولة.. الى اللقاء.. أيها الشاعر الكسندر بوشكين.

ولما خرج الشاعر بعد هذا اللقاء، اتخذ قراره في أن يركز في معظم أشعاره وقصصه، على كل ما من شأنه ان يحث الناس على التقدم والرقي، للارتفاع بمستوى الوطن، لكي ينعم بكرامة وحرية، ما دام القيصر يقف الى جانبه.. وقد نفذ قراره، وصدرت له مجموعة من الاشعار والقصص التي تصب في هذا الاتجاه.

وما هي الا فترة وجيزة، واذا برسالة تفاجئه، حيث جاء فيها: «ان قصيدتك الأخيرة عن بطولة نابليون، قد أغضبت عليك مولانا العظيم، واعتقد أنك ـ يا عزيزي الكسندر بوشكين ـ توافقني الرأي: أن الشاب المطيع لأوامر القيصر أبينا العظيم، هو النموذج الصحيح للتربية القومية، وليس هو الشاب الذي تتقاذفه صور البطولات الزائفة.. لا أخالك يا بوشكين ـ إلا ان تكون قد فهمت قصدي، وأنت الشاعر اللبيب!!».

بالطبع.. الهدف واضح من الرسالة التي وقعها مدير الشرطة السرية (بندروف)، رغم اللف والدوران الذي احتوت عليه، فصار مطلوباً منه ان يكتب في الموضوعات التي يحددها القصر.. وبالفعل، فقد تسلم بوشكين عدة موضوعات ليضمنها قصائده، لكنه لم يستجب رغم انه قد نما اليه ان افكار تلك الموضوعات صادرة عن القيصر نفسه!! ولكن بوشكين لم يحرك ساكناً، وظل متمسكاً في كل ما يكتب من قصائد وقصص، بالقضايا التي تهم الناس، بمختلف شرائهحم الاجتماعية، ولم يذعن لأوامر القصر.

فوصلته رسالة اخرى من مدير الشرطة السرية (بندروف)، جاء فيها:

«ماذا جرى لتفكيرك يا عزيزي بوشكين؟! أتريد ان تغضب مولانا القيصر؟!.. فكر اكثر من مرة قبل ان تحرق كل جسورك مع القصر إلى الأبد!!».

لكن بوشكين فكر في شعره فقط.. وفكر في رواياته التي كان يحاول فيها احياء ذلك التراث العظيم في وطنه.

وبدأ بوشكين يدفع فاتورة ثمن مواقفه بعد ان غضب القيصر عليه، حيث صدرت الأوامر بوضع شاعر روسيا العظيم (الكسندر بوشكين) تحت المراقبة الدقيقة.. وأخذت التقارير السرية تتدفق في تحليل كتابات الشاعر، بل ان الرقابة قد اشتملت على تحركاته ايضا، وكانت ترسل التقارير للقصر تباعاً على الشكل التالي:

1 ـ تقرير مرفوع الى صاحب السعادة قائد الشرطة السرية (بندروف) (سري جداً):

لي الشرف بأن احيطكم علماً بأن الشاعر المعروف (الكسندر بوشكين) الموظف بالقصر على الدرجة العاشرة، وصل الى موسكو من بطرسبرج، وسكن في فندق (بينا)، وقد فرضنا على كل تحركاته رقابة شديدة.

2 ـ الشاعر المعروف الكسندر بوشكين يتردد على منزل اسرة (جوشاروفتا)، والذي يبدو انه ارتبط بعلاقة عاطفية مع الآنسة (ناتاليا نيكولا جوشاروفتا).

3 ـ تأكد لدينا أن الشاعر الكسندر بوشكين قد تقدم الى أسرة (جوشاروفتا) طالباً الزواج من الآنسة (ناتاليا)، وان الأم اشترطت حصوله على موافقة صاحب الجلالة ابينا العظيم القيصر المبجل.

وكعادة الأشراف والنبلاء، تقدم بوشكين، الى القيصر، ملتمساً الاذن بالزواج. وبعد فترة جاءه الرد عن طريق (بندروف): «ان صاحب الجلالة ابانا العظيم القيصر المبجل، الذي يعتني بكم عناية ابوية، قد خولني ان ابلغكم بموافقته على زواجك من الآنسة (ناتاليا نيكولا جوشاروفتا).. وان اوجهكم بنصائحي حتى اتمام الزواج».

المأساة الجديدة!!

تحددت ملامح مأساة بوشكين التي أدت الى نهايته بالموت، في أول حفل أقيم بالقصر، ودعي اليه الشاعر مع عروسه، فراقت (ناتاليا) في عين القيصر، ومنذ تلك الليلة المشؤومة، تعلقت العروس بحياة القصور، وبالحفلات والمراقص، واعتادت على كلمات الاطراء والاعجاب بجمالها الاخاذ، وشبابها الفتان، وتزايد عدد عشاقها، مما زاد في معاناة (الكسندر بوشكين)!!

وفي تلك الليلة المشؤومة ايضاً، بدأت الخيوط الأولى من ملامح المؤامرة للاجهاز على عبقرية الشاعر، فاعطى الايحاء للصحافة ان تحفل بالغمز واللمز عن علاقات مريبة بين زوجة بوشكين، والعديد من شخصيات المجتمع، وخاصة الضابط الشاب (دانتس هيكرن). لكن بوشكين كان واثقاً كل الثقة من طهارة زوجته.. بعد ان اقسمت له على الكتاب المقدس ان القيصر لم يخرج في تعامله معها عن حدود اللياقة.

ولكي تكتمل خطة المؤامرة التي تهدف الى تحطيم حياة الشاعر بوشكين، فقد وصلته رسالة، قلبت حياته رأساً على عقب، وتيقن انه يقع تحت هيمنة تخطيط مدمر، يتخذ من زوجته وسيلة لهلاكه!! حيث جاء في تلك الرسالة:

«اجتمع القوادون من حملة (القرون)، واقروا بالاجماع انتخاب الشاعر (الكسندر بوشكين) رئيساً لهم في روسيا».

وما ان تجرع الشاعر الحساس تلك الصدمة التي تضمنتها الرسالة من تلميحات، واذا برسالة اخرى تصله بعد فترة وجيزة جاء فيها:

«لعله يهمك ان تعلم ان الذي ارسل اليك الرسالة الأولى هو الضابط الشاب الوسيم، الذي لا تكف زوجتك عن متابعته في حفلات سيدك القيصر، انه الكابتن (دانتس هيكرن)، المؤكد انك تعرفه، وتعرف مدى علاقته بزوجتك.. فلماذا لا تبارزه لكي تصون شرفك».

وكان واضحاً أن بوشكين سيقوم بمغامرة المبارزة مع ذلك الضابط، ولكنه قبل أن يتخذ قراره ذهب بالخطابين الى مدير الشرطة السرية (بندروف)، فقابله هذا الأخير، بنعومته المعروفة قائلاً: يا عزيزي الكسندر بوشكين، كيف يخطر ببالك ان روسيا يمكن ان تغامر بشاعرها الكبير في مبارزة كهذه؟!!

فأجابه:

ان شرفي صار مضغة في الأفواه، يا صاحب السعادة!!

ولكن اسمك كأعظم شاعر في روسيا، وسمعتك كأعظم روائي في أوروبا تمنعك يا بوشكين من المغامرة بحياتك من اجل سخافات فتى طائش مثل (دانتس هيكرن)!! لا.. لا يا بوشكين.. أريد منك ان تنسى كل شيء، وان تتفرغ لشعرك، ولفنك، ولإبداعك.

فطلب بوشكين من (بندروف) ان يتوسط له عند القيصر في الحصول على اجازة طويلة يقضيها بعيدا عن العاصمة.. لأن خياله صار مشلولاً عن الابداع، وكلماته قد احتبست بسبب ما يعانيه من تأثير تشويه سمعته، وسمعة زوجته.. لكن (بندروف) يقول له:

تغادر العاصمة؟! هذا مستحيل يا الكسندر بوشكين!!

فطالما أن صاحب الجلالة لم يغادر العاصمة، فمن الصعب عليك مغادرتها.. هل نسيت انك من اشراف البلاد، وعليك ان تتبع مولاك اينما يكون؟!

المبارزة

أدرك بوشكين بعد ذلك اللقاء أن حياته تكتنفها المخاطر، فكتب العديد من القصائد:

كلا.. لن أموت

جسمي سيفنى

روحي ستبقى حية

ما بقي على الأرض شريف واحد

سيجتاز صيطي.. بلدي

سيذكرني كل انسان فوق الأرض

من أقصى سيبيريا الباردة

إلى أشد الأماكن حرارة

في آسيا.. وأفريقيا

.. وكلما اشتدت حدة قصائده التي اخذ الناس يتلقفونها بنهم ويرددونها بإعجاب.. اشتدت ايضا تلك الرسائل التي وصل البعض منها الى درجة من الوقاحة والسفالة، حيث جاء في إحداها:

«الكسندر بوشكين.. هل فقدت كل كرامة، وجبنت عن مبارزة الفتى، الذي يعاشر زوجتك وكأنك تعرف ذلك، وتغض طرفك عنه؟!!

فإذا لم يكن كذلك، فما الذي يمنعك عن مبارزته؟!»

ولم يكن امام بوشكين من مفر من مواجهة (دانتس) في غابة بضواحي بطرسبرج، وهو الشاعر الذي لم يسبق له أن امسك بمسدس، يواجه ضابطاً متمرساً في استعمال كافة أنواع الأسلحة.

وكانت رصاصة دانتس هي الأولى، اصابت من الشاعر مقتلاً، بينما طاشت رصاصات الشاعر في الهواء.

هناك حيث البحر

يغسل الصخور الجرداء

هناك حيث القمر

يسطع في كبد السماء

هناك.. قدمت الطبيعة الساحرة

غلافاً فيه طلسماً

وقالت لي مداعبة:

اذا ما الخيانات..

أدمت قلبك..

عليك بطلسمي هذا..

فإني أمنحك إياه..

من أجل الحب.. والحب فقط

مات بوشكين من أجل الحب.. حب الوطن.. حب الانسان.. حب الكرامة.

وظلت البشرية بكل لغاتها تردد كلماته بالحب والتقدير والاعجاب. حتى صار واحداً من عظماء الأدباء والشعراء ممن خلدهم التاريخ.. أما الذين تآمروا عليه من القصر ورجاله، فإن التاريخ لا يذكرهم الا في مزابله.