عودة العمل الإسرائيلي إلى منطلقات «ماباي»

TT

في الانتخابات التي جرت يوم 11/12/2002 لتحديد قائمة الحزب لانتخابات الكنيست السادسة عشرة ـ وهي الانتخابات التي تسمى بانتخابات البرايمزر ـ وقعت عملية مزدوجة: اللاصدمة عند من تحسس، منذ زمن، ما يجري داخل حزب العمل من تآكل وتراجع لبرنامجه السلمي اللفظي المعلن للتسوية مع الفلسطينيين، وحالة التخبط التي يعيشها بعد اغتيال اسحق رابين، والصدمة المفاجئة عند من راهن على دور خاص قادم للجنرال ميتسناع. فقد صعد الى المقاعد المضمونة ـ المحصنة ـ غلاة وصقور العمل، يتقدمهم الجنرالان بنيامين بن اليعزر، وميتان فيلنائي، وقائد الموساد السابق داني ياتوم، والجنرال افراييم سنيه، بينما تراجعت اسماء جناح الحمائم الى الخلف، واطيح برموزهم الى خارج المواقع المحصنة، الامر الذي فتح المجال امام استبعادهم من امكانية الفوز في انتخابات الكنيست القادمة. وهكذا حل يوسي بيلين، تسالي ريشف، ياعيل دايان في آخر القائمة، مما حدا بالوزير السابق يوسي بيلين والنائبة ياعيل دايان للانسحاب من حزب العمل والالتحاق بحزب ميرتس الذي يمثل تيار «اليسار الصهيوني».

ومع نتائج برايمرز حزب العمل، فان قائمة الحزب لانتخابات الكنيست القادمة تحمل بين ثناياها مجموعة من العسكرتاريا وجنرالات الامن الذين لا يختلفون في الجوهر عن عتاة الليكود، وبها يعود حزب العمل الى جذوره وسياساته البراغماتية التي تخفي القسوة والتشدد تحت لحاف ناعم، متماهين في هذا مع ارث الحزب الذي صنع مداميكه بن غوريون، ليفي اشكول، ايغال الون، غولدا مائير، أبا إيبان... بعد اعلان الدولة العبرية، عندما كان الحزب يحمل تسمية «حزب الماباي». وقد سخرت «يديعوت احرونوت» الاسرائيلية من هذه التطورات يوم 12/12/2002 بقولها «بعد قائمة حزب العمل الجديدة المحصنة لن يستطيع احد ان يقول بأن ميتسناع = يوسي بيلين مع لحية». ان المنتصر الاعظم في انتخابات البرايمرز هو الجنرالات، فقد صعد صقور العمل الى القائمة المحصنة على اكتاف قاعدة انتخابية بلغت نسبة الناخبين فيها من الحزب بحدود 60 في المائة من الاعضاء، بينما 70 في المائة من الاطار الناخب هم من جيل الاربعين فما فوق، ونسبة 30 في المائة من جيل 60 فما فوق، وثمة للكيبوتسات وزن اعلى بعشرة اضعاف من الحضور المدني. وعلى هذا فان جيل حزب العمل الذي صاغ القائمة المحصنة الجديدة هو الاعرق واقدم الاحزاب الاسرائيلية، وهو مزيج من الجيل القديم والمتوسط والجيل الجديد في الوعي والتكوين السياسي، الناضج من الوجهة العلمية والعملية، ويساوي في المجتمع اليهودي على ارض فلسطين نسبة واحد الى كل ستة ناخبين، وبالتالي صاغ العودة الى السياسة الاصل التي حكمت تاريخ «الماباي» الحزب الام، وحددت طريقه وفق اربع مسلمات:

1 ـ تجنب اية هوامش ـ ولو محدودة ـ من عدم تطابق السياسات الاسرائيلية مع سياسة الادارة الاميركية.

2 ـ تحاشي وضع الدولة العبرية امام اجواء ناقدة للسياسات الاسرائيلية من قبل المجموعات الدولية المؤثرة.

3 ـ ابداء المرونة في السياسة العملية البراغماتية في التسوية مع الفلسطينيين والتشدد في المضمون.

4 ـ تجنب ابقاء كرة الحدث في الملعب الاسرائيلي.

وبمطلق الاحوال، فإن النتائج التي افضت اليها انتخابات حزب العمل للكنيست القادمة، تعطي مدلولات هامة لا يمكن التقليل من شأنها، وبذات الوقت من الخطأ المبالغة فيها، والانطلاق منها نحو بناء اوهام جديدة بهذا الاتجاه او ذاك، خاصة بعد ان غاصت عجلات التسوية في مستنقع مواقف التشدد الاسرائيلية والانحياز الاميركي وفي بحور الدم الفلسطيني.

فاستقالة يوسي بيلين وياعيل دايان، والتصريحات التي صدرت مع اعلان القائمة المحصنة للحزب، تشي بأن هدوء العاصفة الحزبية الداخلية لحزب العمل لن يستمر طويلا، وستعود مترافقة مع التفاعلات السياسية لتتصاعد داخل قيادة الحزب وفي ميدان القاعدة المؤلفة لها، والتي يربو تعدادها نحو 114 الف عضو، على خلفية الموقف الاسرائيلي النهائي من الاستحقاقات المطلوبة لشق طريق سلام الشرعية الدولية، فضلا عن عوامل اضافية، في مقدمتها التناقضات الطبقية اولا، حيث التأرجح المتواصل هبوطا في مستوى دخل الطبقة الوسطى التي تشكل مفاصل واعمدة الحزب، واتساع الفارق الطبقي بين القاعدة والقاعدة الوسطى والصف القيادي الاول، والتناقضات بين مجموعتي الاشكناز (امراء الحزب) الذين ضمنوا 17 مقعداً في القائمة المحصنة والسفارديم (دخلاء الحزب) حيث الاقصاء الشرقي ثانيا، حيث بقي لهم 11 مقعدا في القائمة المحصنة، وكلها تناقضات بدأت تتشبع داخل الحزب، الذي كان دائما حزبا تلاحقه عيوب الثغرة المتسعة لصالح الاشكناز، فضلا عن فقدانه البرنامج السياسي، وصعوبة الوصول الى تحقيق رسالة برنامجية موحدة له تجاه القضايا والعناوين السياسية المطروحة وتعقيدات التسوية مع الجانب الفلسطيني على ضوء الانقسام الراهن بين تياراته.

وبشكل عام، ان المقدمات الجارية لانتخابات 28/1/2003 عند مختلف احزاب الخارطة السياسية الاسرائيلية، تشي بأن الكنيست الاسرائيلي السادس عشر القادم سيكون بأغلبية يمينية، لكنها تبقى بحاجة لحزب العمل، حيث امراء وصقور العمل لا يزالون يمتلكون رصيدا وحضورا كبيرين في رسم سياسات الحزب وتوجهاته القادمة، بما في ذلك الدفع نحو مشاركة الليكود في حكومة ائتلافية بعد انتخابات 28/1/2003، تحت عنوان «حكومة اتحاد وطني صهيوني»، ستكون بالضرورة نسخة مطابقة لحكومة شارون التي انفرط عقدها قبل فترة وجيزة مع انفكاك شراكة الطرفين في اكتوبر (تشرين الاول) 2002.

* كاتب فلسطيني ـ دمشق