العقدة العراقية ليست أفغانية

TT

ما الذي ستفعله المعارضة العراقية التي انتهت مؤخرا من اقرار لجنة متابعة، هي بمثابة «حكومة مؤقتة»، في مؤتمرها الموسع الذي عقد في لندن؟ هل تتحول الى قاعدة خلفية للهجوم الأميركي المتوقع ضد معاقل النظام، أم حديقة خلفية للمشروع الاميركي يتوقف دورها على مساندة الحملة الاميركية، فيطير قادتها وزعماؤها الميدانيون والسياسيون من منافيهم الى بغداد، بعد أن تكون السلطة العراقية قد طارت من حيز الجغرافيا الى هامش التاريخ؟ وكيف ستقنع شعبها وأمتها في العراق، بعد أن تصل الى بغداد وفي حوزتها عقود نفطية جاهزة مع عشرات الشركات الغربية والأميركية، خصوصا ان الشعب العراقي بطبعه وفطرته وخصوصياته الانسانية الذاتية، لديه «أكزما» من كل شيء له علاقة بالولايات المتحدة الاميركية والأجنبي والهيمنة والاستعمار والاحتلال والوصاية والانتداب والتبعية المطلقة؟ وهل ستوفق في ايجاد توليفة سياسية وسطية مقنعة، يمكن ان تقود البلاد والثروة وتتجانس في ما بينها، وتتعايش مع محيطها العربي والإقليمي، فضلا عن الدولي؟ وأخيرا هل يمكن رؤية لجنة المتابعة تجتمع في اربيل وتتخذ القرارات الوطنية التاريخية، وتعبر خلافاتها، وتسلم بحقائق الوضع الخطير الذي تمر به الأمة في العراق، فتترك التفاصيل خلف ظهرها «الى أجل» ، وتنهمك في الاعداد لبرنامج وطني انقاذي يأخذ بيد الشعب العراقي، وينقله مرة واحدة من الاستبداد الى الشرعية الدستورية؟

هذه الاسئلة يطرحها الشارع العراقي المترقب للمفاجآت السياسية والميدانية المقبلة، قبل أن يطرحها المراقب السياسي أو المعارض العراقي الذي شاءت الظروف أن يكون خارج جنة المفاجآت السياسية القادمة. فهي اسئلة حادة حدة الظرف الدراماتيكي الحرج الذي يمر به شعب لم ير النور منذ ولادات ابنائه. وهي اسئلة مشروعة في ظل مناخ دولي غير مشروع في علاقته بحقوق الانسان، والنظرة للتشريعات السياسية والاجتماعية، خصوصا في بلد كالعراق تُرك يواجه مصير الموت والذبح والقتل وتفشي مظاهر الجريمة المنظمة كافة، لا لشيء الا لكي ينفذ زعيم المنظمة السرية في بغداد، جميع حلقات مشروع اسقاط الجغرافيا العربية بسقوط بغداد، وتسقيط التاريخ العربي بالاساءة للسيادات والانسان والحدود، لهذا يميل العديد من الباحثين الى تأكيد حقيقة أن الهجوم الاميركي القادم، لو تم بالرغبة والقرار الاميركيين من دون أن يكون للمعارضة العراقية دور فيه، سيعمل على ازاحة الجدار الأخير لجغرافية الأمة، وسيردم آخر ساقية للتاريخ العربي، فضلاً عن الحاقه افدح الخسائر بالاستعداد النفسي والحصانات والقلاع وسدود الثقافة العربية، ما يعني ان الامة العربية مقبلة على مشروع انتحار جماعي لتاريخها وعلى مقابر شمولية تماما كما كان صدام يفعل بالتاريخ والحدود والسيادات والجغرافيا والانسان.

ولكي نكون واقعيين في النظرة لتداعيات المستقبل يمكن ملاحظة ما يلي:

ـ لنعترف بأن الولايات المتحدة الاميركية بحاجة للمعارضة العراقية بعد جولات من العنت والجبروت السياسي، وتقديم المعلومات للسلطة في بغداد، اوائل الثمانينات، للقضاء عليها، وتجفيف منابعها، والسيطرة على تأثيرها عبر مشروع التصفيات الأشهر في تاريخ العرب والعالم، الذي مارسه صدام ضد قياداتها ومرجعياتها الدينية والسياسية. ان تلك الحاجة اليوم تستدعي وجود «شروط عراقية» تشعر المفاوض الاميركي ان المعارضة العراقية لن تكون تحالف الشمال، ولا يسر أي قيادي عراقي بارز على سطح المسرح الوطني، ان يكون برهان الدين رباني، لاتتعدى مهمته اسقاط كابل والترحيب بالزعيم القادم بالشروط الاميركية! ولو قدر وفعلت المعارضة ما فعلته قيادات تحالف الشمال الافغاني، ومارست ذات الدور في مسرحية الاطاحة بنظام طالبان، فعليها أن ترهن مستقبلها للمفاجآت البعيدة وتبقى خارج اللعبة السياسية، وربما يملي عليها هذا الظرف ان تبدأ من جديد معارضتها لنمط الحياة السياسية بعد صدام، وهي مهمة اصعب عليها واعسر بكثير من مهمتها القديمة وصراعها الشرس مع صدام. فهل ان المعارضة العراقية مستعدة لأن تبقى خمسين سنة اخرى خارج الحياة والوطن، ام عليها ممارسة اكبر قدر ممكن من الحنكة والشروط العراقية امام من يحتاجها اليوم لظرف الاسقاط؟

ـ من غير المعقول ان لا تمارس المعارضة العراقية قدراً كافيا من الممانعة الذاتية والسياسية امام سيل من التوجهات الاميركية، التي بدأت تتدخل في رسم، او قل في ترسيم الحياة العراقية. بمعنى آخر كان لا بد من نقاش موضوعي مستفيض من قبل اطراف المعارضة العراقية التي اجتمعت في لندن، لمشروع الولايات المتحدة الاميركية الخاص بالمسألة العراقية، او ما عرف بـ«خارطة الطريق». وهنا تبرز في الواقع اشكالية كبيرة منشؤها التصادم المتوقع، أو المفترض وقوعه، بين مشروعين يشتبكان في المستقبل: مشروع المعارضة ومشروع واشنطن. واذا كانت المعارضة العراقية جادة في الامساك بالمستقبل وقيادة الحياة السياسية، فما هو رأيها بـ«ثوابت» الادارة الاميركية، التي وضعتها لشكل ومضمون العراق القادم؟

ان ما ينشر لغاية هذه اللحظة، موضع التباس فكري وسياسي واخلاقي كبير، ومحط خلاف لا يمكن ان ينتهي الا بانتصار تصور معين وخذلان وهزيمة آخرين. واذا سلمنا جدلا، بان المعارضة ستمرر «خارطة الطريق» الى العراق، فكيف سيكون موقفها امام توجهات الداخل ومعارضته وقيم اجتماعه السياسي والوطني؟

ان قبول الخارطة قبول واضح بالهزيمة السياسية، ولو على جثة صدام ومغادرة السلطة الى الأبد أعتاب القصور الرئاسية. ان هذا الكلام لا يعني ان المعارضة العراقية ستؤطر عملها الوطني في دائرة الالتزام بمستويات الخارطة والتطبيق الحرفي لها، لكن من المفترض ان تنجز القوى السياسية العراقية لوحة خطابها وتصورها النهائي من كل الالتزامات الدولية، في اطار خارطتها السياسية الوطنية، قبل التفكير بانجاز تشكيلة سياسية تقود الصراع، وفي داخلها اكثر من قنبلة موقوتة قد تنسف استراتيجيتها في حال التقت مؤثرات التصادم في لحظة الالتباس المتوقعة. فما نريده للمعارضة ينسجم وما تريده هي لشعبها وللديمقراطية ولعائلة المفاهيم العقدية التي اعطت لها آلاف الضحايا.. والضحايا من ضحايا يولدون.

ـ لأول مرة في تاريخها، تسلم المعارضة العراقية وقواها الاسلامية والوطنية الكردية والعربية بحقائق الاوضاع، وضغط الواقع، وضرورات «الوحدة»، والاتفاق على الحد الأدنى من المشتركات، وادراك هذا التسليم والاشارة اليه هنا ليس تجريحا بأحد، سواء كان حزباً او تنظيماً أو فرداً او جماعة، بقدر ما هو توصيف حقيقي للحالة التي سادت اجتماعات لندن مؤخراً.

ان هذا التسليم يفرض قاعدة اساسية هي التركيز على الوطنية بدل الانتماء السياسي والجهوي، والوطن بدل الوطنية، ما يعني بداية النقاش الجدي حول قيمة العمل الوطني في ظل تعدد هوية المواطن المذهبية والفكرية والسياسية، واسقاط الشعارات الرنانة التي حولت الوطن الى مزرعة خصبة لتجارب الذبح البشري بفعل تسلط نزلاء المدن القادمين من القرى النائية. ان الوطنية كشعار، لن تعمر بالتطبيل في ظل غياب المشروع الوطني. ولعل سبعون عاماً من وجود سلطة النازحين جعلتنا، كعراقيين، نتقزز، بل نتقزم أمام مشهد «الوطنية» المذبوح من القفى بالممارسات الشائنة والبعيدة عن السلوك الحقيقي والتحويرات التي ادخلت على المفهوم، فكان من نتائجها عبور المتسللين الى «الهدف الوطني» رغم ما الحقوه بالوطن من دمار وخراب وتراجع «أهل الوطن» بفعل اغفالهم جوهر الدعوة للمفهوم. ان المعارضة العراقية، التي سلمت بالواقع واعترف كل طرف بالآخر بفعل قسرية المكان وقهرية الظرف، لا بد أن يكون لها «وقت كاف» لقياس المستقبل القادم وما يختزنه من حمولات وطنية، وكم كنا نتمنى ان يكون للداخل العراقي الراهن ثقله الخاص في المؤتمر الموسع، لأن الداخل يعني الورقة الأقوى بين الأوراق القوية التي يراها زلماي خليل زاده، فاعلة في المؤتمر، فيحمل النقاشات على محمل الجد، ولا يمارس لعبة ربع الساعة الأخير، وكأن المشكلة لا تعدو كونها خلافا على «لوحة» وليست اختلافا جوهريا على وطن مباح ودم مستباح.

ـ رغم مشاكل المعارضة العراقية، الا انها ابرزت عنصرا مهما ميزها عن غيرها من المعارضات، خصوصا الافغانية التي تحول «بعضها» الى دولة، وهو أنها قادرة على التوحد رغم المناكفة، والتماسك في ظل عمليات التفكيك والتحريض، وقدرتها على ممارسة الديمقراطية رغم وجود ظاهرة العسكرة السياسية في موزاييكها الحركي والحزبي، كما وجود بعض شخصيات الحرس القديم. ان معارضة تدخل مؤتمرها بدون خلفيات آيديولوجية او اجندة سياسية أو شروط مسبقة، لا تتعقد من تشبيهها بتحالف شمال افغانستان، لأنها، ببساطة شديدة، لا تشبهه، ويفترض ان لا ترتعد فرائصها من مثال حامد كرزاي، كون الأخير كمصطلح وظاهرة ومفهوم.. لن يخيف أحداً.

* كاتب وباحث عراقي