لماذا نُهزم دائما...؟!

TT

السؤال يخص حركة التنوير ورجالها المعاصرين، وان دخل عباس في فرناس وجاز السؤال على كل الحال، فتلك طبيعة الامور، وواقعها حيث الهزيمة وتجلياتها في كل مكان، وعدم الاعتراف بها لا يلغيها انما يؤخر علاج آثارها ونتائجها.

لقد صفقت فرحا اثناء قراءتي لقضية مجلة «الرافد» الشهر الماضي والتي اثارها تركي علي الربيعو الباحث الجاد والمحترم واختار لها عنوانا: لماذا هزم التنويري العربي..؟ والذكاء في العنوان واضح، فحركة التنوير لم تهزم انما هزم التنويريون المعاصرون لانهم صاروا جزءا من تركيبة السلطة العربية وخطابها الفكري العام.

اما سر الفرحة فلأني منذ دهر اشير الى هذا الاتجاه واغني بكل اللغات واساليب التعبير «العيب فيكم وفحبايبكم اما التنوير.. ياعيني عليه».

ومسألة ان يكون رجال التنوير هم سبب هزيمة حركة التنوير المعاصرة لا يصعب التدليل عليها بألف مثال ومثال لكني سأكتفي بعدة اقطار عربية كنماذج وبدل المثال الواحد سنأخذ من كل بلد بدل الشخصية الواحدة اثنتين من الشخصيات الفاعلة في حركات التنوير العربية.

خذ من مصر محمود امين العالم وجابر عصفور، الاول تشرد ونفي وعارض وبعد ان انهار المعسكر الشرقي عاد ليجد نفسه جزءا مهمشا من مشروع السلطة الثقافي مرة يقف مع الوزير ليوزع جوائز سينما واخرى يقود حملات على قوى وهمية هو اول من يعرف عدم وجودها او انها ليست كما يصورون، لكن التنويري مثل الامبريالي جزئيا بمعنى لا بد له من عدو ليعيش.

وجابر عصفور ايضا في منصب الامين العام للمجلس الاعلى للثقافة وهو ارفع منصب ثقافي بعد الوزير وصاحب عدة كتب عن التنوير كانت مع غيرها الحربة الثقافية ضد ما سمي بالقوى الظلامية التي ضخم المثقفون حجمها اكثر مما يلزم حتى يبرروا وقوفهم الكامل مع السلطة الرسمية وخطابها.

في تونس عندك عبد السلام المسدي وعبد اللطيف الهرماسي والاثنان تمتعا بكافة المناصب الاكاديمية وتم استيزارهما اكثر من مرة والثاني ما يزال وزيرا، وهذان وسواهما في تونس لم يجدا مساحة للحوار مع حركة الغنوشي مع ان «النهضة» هي الحركة الاسلامية الوحيدة التي ادانت العنف الاصولي، ولا شك ان الحوار معها كان يمكن ان يعطي بعض النتائج لكن السلطة قالت ذاك لا يجوز، فسكتوا ودخل التنوير في بلد خير الدين التونسي تحت عباءة الخطاب الرسمي، وكنت سأستثني المغرب من هذه الحالة لولا ان التنويريين صاروا جميعا هم الحكومة منذ عدة سنوات.

من سورية خذ حنا مينه وعلي عقلة عرسان والاول لم يكن مستشار الوزيرة نجاح العطار بل كان في مرحلة من المراحل هو الوزارة، والثاني رئيس اتحاد الكتاب العربي حاليا ورئيس اتحاد الكتاب في سورية لاكثر من ربع قرن ولم يتأخر ابدا في جعل التنوير السوري موظفا عند الدولة بدل ان يكون حركة مستقلة ذات ثقل معنوي وشخصية اعتبارية.

وآخر الامثلة من البحرين التي انتجت مفكرين تنويريين كبيرين الدكتور علي فخرو، والدكتور محمد جابر الانصاري، الاول كان وزيرا عدة مرات ونائبا لرئيس الوزراء والثاني في منصب مستشار لملك البحرين، الأمر الذي ينفي اية استقلالية عن مواقف السلطة في المنامة، فالانصاري كان مستشارا للسلطة البحرينية في سنوات انغلاقها وانفتاحها.

وبين هذا الرعيل الذي ذكرت اصدقاء نعتز بصداقتهم ونقدر جهد عقولهم الكبيرة لكننا نحب ان ينتبهوا الى ان علاقتهم بالسلطة تجاوزت اي تحالف مرحلي اقتضته ظروف النشاط المكثف للقوى الظلامية، واوشكت ان تصبح عبئا على الثقافة الحرة المستقلة.

لقد هُزم التنوير العربي المعاصر لانه صار جزءا اصيلا من مشروع السلطة وخطابها الثقافي العام اما الذين ظلوا خارج ذلك الاطار فقد كان امامهم اما «التدروش» او السجن او المنفى.

ان التنوير ليس طبعة ثابتة نكررها كل مئة عام ولكنه الجرأة على استخدام العقل النقدي والقدرة على تعرية الاستبداد من أي ركن جاء وفي بعض البلدان كانت مواقف السلطات اشد ظلاما من اي ظلاميين واشد كثافة من اي ظلام، وكان التعاون معها وخدمة خطابها غلطة الشاطر للتنويريين العرب وهي بألف مما يعدون.

وهكذا وجد الشاطر من هو اشطر منه، وتشرخت المصداقية التنويرية وتحولت احلام التحرر الكبرى للمجموع الى مجرد مكاسب مادية وشخصية، و«برستيج» سلطوي لبعض الافراد، فهزم التنويريون المعاصرون انفسهم بصمتهم وفتحت مع بداية هذا القرن صفحة جديدة نأمل ان يعي فرسانها وكاتبو سطورها خطورة المأزق الحساس الذي تورط فيه من لم يفرقوا بين منطق الدولة البوليسية الصارم والقاتم والاحادي وبين الطبيعة الحرة والتعددية لرسالة التنوير.