مأزق كوريا الشمالية

TT

يبدو اننا بدأنا العام الجديد بورطة عميقة. وان قرار ادارة بوش باحالة مسألة احياء كوريا الشمالية لبرنامج أسلحتها النووية للأمم المتحدة يمثل مسعى صائبا وان كان غامضا، من اجل وضعها جانبا على أمل تجنب أزمة عسكرية جديدة عشية الحرب مع العراق. ومن المستبعد أن تتخذ الأمم المتحدة اجراءً مجدياً بهذا الخصوص، على اعتبار انه لا توجد قوة بخلاف الولايات المتحدة لديها ما يمكنها من تحويل الكلمات الى أفعال.

وحتى لو أتت خطة الادارة الأميركية الرامية لعزل كوريا الشمالية ثمارها، فانها في أفضل الحالات قد تؤدي الى تشديد نسبي للعقوبات المفروضة على بلد يعاني اقتصاده بالفعل من الاحتضار. فالتهديد الاضافي الوحيد الذي يمكن اللجوء اليه هو حجب المساعدات الغذائية عن شعب كوريا الشمالية، وهو اجراء قد يدفع بالولايات المتحدة مجددا نحو حالة أخلاقية جديدة.

ويبدو ان الادارة الأميركية تمر الآن بموقف غريب يتطلب منها اتخاذ قرار بتأجيل الحرب ضد العراق من أجل مواجهة أكبر خطر جاد يتهدد الاستقرار في آسيا منذ آخر أزمة نووية كورية شمالية اندلعت قبل عقد مضى. يضاف الى ذلك ان الكوريين الشماليين يتجهون نحو تطوير ترسانتهم النووية بطريقة يبدو ان أساليب الادارة في التأجيل لن تؤتي ثمارها معها.

ومع رحيل آخر المفتشين الدوليين عن بيونغ يانغ مؤخرا وامكانية استئناف برنامج معالجة البلوتونيوم مجددا خلال شهر أو اثنين، يبدو ان كوريا الشمالية توفر لنفسها امكانية انتاج عدد أكبر من الأسلحة النووية، حيث لن يتسنى لأي اتفاق لاحق أن يغير في الأمر شيئا.

ومع ذلك فالبعض يأملون في أن يتبين من هذا كله ان الأمر عبارة عن محاولة من كوريا الشمالية للحصول على تنازلات كبيرة من ادارة بوش. ولو صح هذا الاعتقاد، سيكون على الولايات المتحدة أو كوريا الشمالية أن تتراجع عن مطالبها. لكن لسوء الطالع لا يبدو ان أيا من هذه الاحتمالات ممكن. وفي ظل غياب المحصلتين ستمضي كوريا الشمالية قدما في مسعاها لكي تصبح قوة نووية، وعواقب نجاحها ستكون وخيمة.

يضاف الى ذلك ان كوريا الشمالية في وضع يمكنها من توفير تقنية نووية لدول أخرى أو لجماعات ارهابية. وفي كل الأحوال علينا توقع ان تواصل تطوير قدرتها على انتاج صواريخ باليستية محملة بأسلحة نووية. كما انه لا يمكن الشعور بالاطمئنان على المدى الطويل نتيجة للقدرات المحدودة نسبيا المتوفرة في صواريخ كوريا الشمالية الحالية، والتي يمكن أن تهدد حلفاءنا، بمن فيهم اليابانيون. والأهم من ذلك انه بامكان خبراء أسلحة كوريا الشمالية أن يطوروا تدريجيا قذائف ذات مدى أطول ورؤوسا حربية أخف وزنا، الأمر الذي سيوفر لبلادهم قدرات نووية باليستية دولية.

وبينما لم يتسن التأكد من كيفية مدى صواريخ كوريا الشمالية ، الا انه من المؤكد ان ادارة بوش تواجه حاليا مأزقا حرجا يتعلق بمصداقيتها، فتقريرها الخاص باستراتيجية الأمن القومي، الصادر خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، يدعي اعتبار الاجراء الاستباقي وسيلة للتعامل مع ذلك النوع من التهديد الذي يمثله العراق بالنظر الى مساعيه الرامية لانتاج أسلحة الدمار الشامل.

ومع ذلك فلا يوجد ما يشير الى أن الادارة تخطط لاتباع نفس النهج ضد كوريا الشمالية، التي تمثل، بالنظر الى ما حققته بالفعل، خطرا يتهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة.

يؤكد التقرير الخاص الذي أصدرته الادارة خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بشأن استراتيجيتها المتعلقة بالأمن القومي والذي حمل عنوان «الاستراتيجية القومية لمكافحة أسلحة الدمار الشامل»، في صفحته الأولى: «اننا لن نسمح لأكثر أنظمة العالم خطورة وللارهابيين أن يهددونا بأكثر أسلحة العالم قدرة على التدمير»، لكن لا يوجد ما يشير الى أن هذا النهج غير المشروط سيوجه نحو كوريا الشمالية.

وتؤكد مقدمة أخرى في التقرير ان «الحظر الفعال يعد جزءا حيويا» من استراتيجية أميركا المتعلقة بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل والصواريخ التي قد تنقلها. لكن، مرة أخرى، قررت الادارة، وبعد حجزها لسفينة كورية شمالية كانت تنقل سرا صواريخ باليستية من انتاج كوريا الشمالية لليمن، الافراج عن السفينة وحمولتها. وقد استند المسؤولون الأميركيون الى نصوص في القانون الدولي، لكن مثل هذا التبرير، وهو أمر غير مألوف في حالة تعامل الادارة مع أول قضية نزع أسلحة، يخفف من مصداقية سياسة الاجراء الاستباقي الصلبة، فأي درس يمكن أن تستوعبه كوريا الشمالية؟

وهكذا، ونحن نمضي باتجاه الحرب ضد العراق، ها هي الولايات المتحدة تتعرض لموقف محرج من كوريا الشمالية، التي يبدو انها وجدت ضالتها في ازعاجنا. وهذه الحكاية قد تتواصل، لكن بمرور كل يوم تقترب كوريا الشمالية من تحقيق هدفها المتعلق اما بارغام الادارة الأميركية على التفاوض أو بتعزيز قدرتها على انتاج أسلحة الدمار الشامل.

وفي الحالتين من المحتمل ان يتعرض ميزان القوى في أقصى الشرق للخلل. ولو قرر الرئيس التفاوض، فانه سيبعث برسالة مفادها ان الابتزاز هو أفضل وسيلة للفت اهتمام ادارته. واذا لم يتمكن من منع كوريا الشمالية من تحقيق طموحاتها النووية، فالعلاج الوحيد هو اجراء عسكري.

على ان الحرب في شبه الجزيرة الكورية تعد الى حد كبير أبشع مما قد يحتمل، رغم ان ادارة كلينتون واجهت موقفا مشابها عندما تعاملت مع برنامج أسلحة كوريا الشمالية النووية خلال أوائل التسعينات (حينها، كما هو الآن، كانت كوريا الشمالية مستعدة للبدء ببرنامج كان يمكن أن يوفر لها ما يكفي من وقود البلوتونيوم لانتاج أسلحة نووية على التوالي). ولو مضت كوريا الشمالية ببرنامجها اليوم، فقد نواجه حكومة شرسة في وضع يمكنها من تهديد المنطقة بشكل متزايد. وهذا التهديد قد يتسبب في جعل عدد من الدول، بما فيها كوريا الجنوبية وربما اليابان، تتساءل عن امكانية استمرارها في الاعتماد على الضمانات الأمنية الأميركية كأفضل وسيلة للدفاع ومواجهة التحديات.

ملحوظة سياسية يمكن استنتاجها من التطور الأخير، وتتمثل في الخطر الذي قد ينشأ عن المفاوضات الصارمة. ويبدو ان اعتبار الرئيس لكوريا الشمالية بأنها عضو في «محور الشر» خلال خطابه الأخير عن حال الأمة، بات الآن أشبه بالوهم الحاضر. ومحصلة العمل الدبلوماسي الذي ستقوم به الادارة ستكون اننا نستعد لخوض حرب ضد بلد قد يتمكن في نهاية المطاف من امتلاك أسلحة نووية، بينما يقترب بلد آخر من القدرة على الانتاج الهائل.

شئنا أم أبينا، تحتاج الادارة الأميركية لاختبار نظرية ان كوريا الشمالية تسعى لارغام الولايات المتحدة على التفاوض. وذلك قد يمثل دواء مريرا على الادارة أن تبتلعه، لكن بالنظر الى البدائل سيكون من الحكمة ان تراجع الادارة نهجها وتتحاور مع كوريا الشمالية.

ومع ذلك اذا لم يتسن لهذه العملية وضع حد لمغامرة كوريا الشمالية النووية، فعلى الادارة حينئذ، وبشكل عاجل ان تقبل بتعرض أمن الولايات المتحدة لنكسة هائلة، أو أن تستعد لمغامرة عسكرية كبرى ثانية في كوريا، وهي مغامرة قد تتم في نفس وقت الحرب ضد العراق، أو في فترة متقاربة.

* مستشار الأمن القومي لدى نائب الرئيس السابق آل غور، ومحاضر في العلاقات الدولية بجامعة جورج واشنطن الأميركية.

خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»