إمبراطوريات العالم والزحف على بابل

TT

يقول القارئون لتاريخ بلادنا بعناية وعمق وتأمّل، بأن «كوروش العظيم» كبير ملوك الهخامنشيين، وسادس حاكم في تلك السلالة الإيرانية المستبدة، عندما قرر الهيمنة على العالم من حوله وتشكيل أول امبراطورية في التاريخ، زحف يومها بجيوشه الغازية على بابل وغير بابل، تحت شعار «الحرية للجميع!»، مدغدغاً مشاعر اليهود في حينه وغير اليهود، بأنه قادم «لتحريرهم من القيود والأغلال» وأنه «يشاركهم في كل ما تدعوهم إليه آلهتهم!».

وبالفعل، فقد نجح كوروش المذكور في الزحف على مصائر ومقدرات ملل العالم في عهده تحت شعار «الحرية» الزائف ليبني امبراطوريته المهيمنة الظالمة بحد السيف وسفك الدماء.

وأنه عندما جاء دور الاسكندر المقدوني، فإنه عمل الشيء نفسه، مبتدئاً بفتح بلاد مصر التي كانت قد وصلت إليها هيمنة امبراطورية فارس القديمة، وواصل الزحف تحت ظل الشعار نفسه، إلى أن دكّ امبراطورية «كوروش العظيم» دكاً، ورفع علم امبراطوريته البديلة في «عرين» بابل ومن ثم في معقل امبراطورية فارس في ميرسيوليس بعد أن خاض بحوراً من الدماء التي كانت تحول دون وصوله إلى عرش الامبراطورية العالمية الخاصة به.

وبين عامي 1910 و1917، كانت تراود طلائع الزاحفين على العالم من أرباب «الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، فكرة إعادة رسم خريطة المنطقة المحيطة ببابل وفارس بما يتناسب ومصالح الامبراطورية العتيدة، وتصفية ميراث دولة «الرجل المريض» أي الدولة العثمانية، حتى وإن أسهم ذلك الطموح في إطالة أمد حرب عالمية هي الأولى من نوعها، وربما أسس لنواة حرب عالمية ثانية بعد عقدين من الزمان.

والغريب واللافت في المشهد الأخير مما نحن فيه من سرد تاريخي تلغرافي، هو أن أرباب الامبراطورية الإنجليزية كانوا يعدون العدة ويخططون لقيام «جمهورية تضم خوزستان الإيرانية والكويت والبحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، حالياً، ومنطقة جنوب العراق، وصولاً إلى بغداد لتكون عاصمة هذه الجمهورية، والتي يفترض أن يتزعمها الأمير الشيخ خزعل ـ شيخ خوزستان ـ باعتباره رجل الإنجليز المفضل آنذاك»، كما يقول رواة التاريخ المعاصر.

لكن قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية، كما يضيف القارئون العارفون ببواطن الأمور في العام 1917، وترسيخ جذورها البلشفية في عام 1919، والذي شكل انقلاباً غير متوقع في مخطط الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، هو الذي منعها من تنفيذ خطتها المذكورة أعلاه. الأمر الذي دفعها لاستبدال تلك الخطة بقيام ديكتاتوريات متعددة أريد لها أن تشكل سياجاً يحيط بالدولة البلشفية الفتية، ويطوقها من كل جانب. فكانت دولة تشان كاي شيك الصينية، ودولة رضا خان الإيرانية، ودولة كمال أتاتورك التركية، كسلسلة أقمار من العملاء المتعاونين مع الإنجليز، وكان نصيب بلاد بابل القديمة الدولة العراقية الحديثة التي نعرفها اليوم.

هذه الدولة التي يُقال إنها وليدة مخاض صعب من الإرادات المتضاربة والعوامل المتدافعة، لكنها محصلة الغلبة الإنجليزية على زعماء ثورة العشرين العراقية الوطنية المجيدة، التي خاضتها جماهير بلاد الرافدين العرب الأقحاح بزعامة رجال الدين من أمراء الطائفة الشيعية وعشائر دجلة والفرات الوطنية من الأكثرية الشيعية والأقلية السنية على حد سواء.

تلك الدولة التي ظل العراقيون بعامة مجمعين على أنها لم تمثل يوماً طموحات ثوار الاستقلال وزعماء النهضة، لأنها تشكلت في إطار ما يسمونه بالصفقة التي حصلت بين معادلة الغلبة الانجليزية والنخبة من بقايا دولة الرجل المريض التركية العثمانية.

وبالتالي فثمة من يلوم اليوم زعماء النهضة وثورة العشرين من علماء دين وزعماء عشائر ونخب وطنية بأنهم لم «يستثمروا» فرصة المفاوضات مع الإنجليز، وأنهم مارسوا المبدئية أكثر من اللازم. بل ان ثمة آخرين يحذرون من ضياع فرصة متاحة مقبلة، ويقولون بأن الامبراطورية الجديدة التي تشكل أطرها اليوم، بسبب معادلة الغلبة الأميركية والدولة القطب الأوحد في العالم، بعد الحرب الباردة، وحوادث 11 سبتمبر، انما هي بصدد «إعادة إنتاج جمهورية خزعل الحرة الشهيرة بلباس عصري جديد!». وما علينا نحن من أبناء العراق «الرجل المريض»، إلا اقتناص هذه اللحظة التاريخية الذهبية وعقد صفقة العمر مع الامبراطورية الجديدة التي لن تغيب عنها الشمس، هذه المرة أبداً.

في هذه الأثناء ثمة من يذكر الطامحين بحلم الشيخ خزعل بما حصل له عندما ظهر فجأة على المسرح السياسي الأكبر بطل آخر من أبطال اقتناص الفرص التاريخية!، وهو رضا خان، والذي قدّم مواصفات افضل للتعامل مع الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك، والذي سرعان ما أعطي الضوء الأخضر لإحضار خزعل إلى طهران مكبلاً بعلم الحرية الانجليزي ليدفنه ويدفن معه حلمه بـ «جمهورية المحمرة» الممتدة عبر الكويت والبحرين والمنطقة الشرقية وصولاً إلى بغداد.

ويتساءل هؤلاء: ماذا لو وجدت واشنطن أو عُرض عليها اليوم مَن هو أقدر على تلبية رغباتها الامبراطورية وطموحاتها والهيمنة على العالم والمساعدة بشكل افضل على اشاعة وتعميم الحرية الديمقراطية المنشودة؟، عندها ماذا سيكون مصير الطامحين بحلم الشيخ خزعل من أمراء المعارضة العراقية؟!.

ثم قبل ذلك وبعده، فإن السؤال الكبير الذي يرتسم اليوم على شفاه كل عراقي، بل كل عربي وكل مسلم هو: أين مصلحة جمهور العامة من العراقيين في هذا السباق المحموم الذي تخوضه بعض الفئات المتصدرة لبديل «الرجل العراقي المريض» مع حاكم العراق الفعلي في كسب ود أو معركة التأثير على ما بات يعرف بـ «المجتمع الدولي»، والذي تتحكم فيه دولة القطب العالمي الأوحد؟!.

هذا الجمهور الذي هو أحوج ما يكون إلى فك الحصارات المتعددة عنه، والتفكير بحاجاته اليومية الملحة من طبابة وتغذية وتعليم ورفاهية وعيش بسلام مع ذاته ومع جيرانه، بعيداً عن صراعات «البنادق الوطنية» القديمة والحديثة، العاملة في خدمة مصالح الامبراطوريات القديمة أو المستقبلية. انه الشعب العراقي المنسي في خضم الصراع من أجل السيطرة على البترول وغيره من موارد الهيمنة على العالم.