الاغتيال السياسي

TT

مع اختتام عام 2002 ختم السياسي اليمني جار الله عمر من الحزب الاشتراكي حياته اغتيالاً على يد المتشددين بدعوى أنه علماني. وبعدها بيومين تقرب المتشددون اليمنيون إلى الله بأربعة قرابين من أطباء أمريكيين لأنهم مبشرون.

وفي مصر قتل فرج فودة بدعوى أنه علماني مرتد. وعندما سئل الشيخ الغزالي عما فعلوا قال «كان افتئاتاً على عمل السلطة» وفي الهند قتل متعصب هندوسي داعية السلام غاندي مثل أي فيروس يقضي على إنسان نبيل.

وفي دمشق في بدايات القرن العشرين أطلق النار على القاسمي صاحب التفسير المشهور لأنه (يفسر) القرآن والتفسير في القرآن عرضة للخطأ والخطأ في القرآن (كفر).

وقتل الزعيم الأسود مالكولم اكس على يد نفس الشبان الذين رباهم على عينه ولما أحدق به الخطر نصحه البعض بالحذر والتواري قال: لا نجاة لي منهم لأنني ربيتهم وأعرفهم. وقتله من قتله وهو يعتقد أنه يعمل أفضل شيء لحماية المسلمين السود من هرطقته. وقتل الزعيم الأسود المسيحي مارتن لوثر كينج اغتيالاً وكل ذنبه أنه دعا إلى السلام بين الأنام.

وفي يوم اتصل بي أخ فاضل فقال لي لقد اطلعت على ما كتبت وبودي أن أرد عليك ولكن لا أستطيع. فهذا هو الفرق بين ما أدعو إليه وما إليه يدعون. فهم يخلطون بين الجهاد والجريمة. وما أطرحه يمكن أن ننادي به من فوق كل منبر. وما يقوله العنفيون لا يتكلمون به إلا سرا. وقوة الإفصاح تأتي من صلاحية الكلمة. وفي الإنجيل علم عيسى بن مريم الحواريين فقال لهم: ما أقوله لكم في الآذان نادوا به من على السطوح. وما أقوله لكم سرا قولوه علنا. وما أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور. وهل يوقد أحدكم السراج ويضعه تحت المكيال أم على المنارة فيضيء للجميع؟

وفي نهاية عام 2002 جرب أحدهم حظه معي فنشر بعضاً من أفكاري في جريدة محلية فهاج القوم وماجوا وطردوني من جنتهم وقالوا ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. مع أنني دعوت إلى كلمتين: العلم والسلم.

وفي مصر عام 1948 اشتدت المحنة على جماعة الإخوان المسلمين أيام النقراشي فوقف مؤسس الجماعة (حسن البنا) متأوهاً بين أتباعه وقال: (ربنا يخلصنا منه)، ففهم من هذا أحد الشباب أن يعمد إلى مسدسه فيغتال رئيس الوزراء النقراشي فلما بلغ ذلك البنا تأوه أكثر وقال: ولكنني قلت اللهم أرحنا منه ولم أقل أن يريحنا منه فلان. وفي جنازة النقراشي كانت الهتافات تتعالى برأس البنا الذي دفع الثمن من دمه باغتيال مضاد. وكانت خسارة لا تعوض للمسلمين. ونحن نضيع نفائسنا دوماً بحماقات من هذا النوع. لأن الرجل كان بإمكانه أن يعدل في تركيب وحركة الجماعة التي اخترعها. واليوم تشيخ الجماعة وتهرم ويتم تعيين قيادات على رأس الجماعة تذكر بالقيادات السوفيتية العقائدية التي جاءت بعد بريجينيف وهي في شتاء العمر فتساقط ثلاثة في سنة واحدة.

وفي أمريكا تم اغتيال مؤسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي اسماعيل الفاروقي وزوجته في منزلهما طعناً بالسكاكين على يد أسود قال إن الملائكة أوحت إليه بقتل الفاروقي طعناً بالخناجر تحديداً. وكانت خسارة كبيرة لأن الرجل انتبه إلى حقيقة جوهرية في سبب تخلف المسلمين فدعا إلى حركة إصلاح ديني. وبعد موته أصبحت مؤسسة من المؤسسات.

ومن التاريخ نعرف أن أعظم فاجعة حلت بالمسلمين كانت مصرع الإمام علي كرم الله وجهه على يد الخوارج، الذي اغتيل في المحراب وهو يصلي فخرج يسبح في دمائه فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا. وبعد اغتيال الامام علي انتهت الحياة الراشدية إلى غير رجعة وانصرف المجاهدون إلى بيوتهم وجاء جيش بيزنطي متلفع بعباءة عربية ومن حينها أصبح الخليفة يحكم إلى الأبد ويلعب بالمسبحة وصرر الدنانير ومصائر العباد.

وفي لبنان وسوريا فكر القوميون السوريون أن أفضل طريقة لإصلاح الأوضاع هي الاغتيالات السياسية فاغتالوا عدنان المالكي ورياض الصلح فكلفهم هذا رأس الحزب انطون سعادة وأن يطارد عناصر الحزب في أي نفق تحت الأرض أو سلم في السماء.

وفي التاريخ الإسلامي نشأت حركة الحشاشين من فرقة الإسماعيلية فأغمدت الخناجر في صدور الرجال في جنح الظلام وبقيت لأكثر من قرن تبث الرعب والفوضى. وإليهم يعود فضل سبق الاختراع فأدخلوا إلى قواميس اللغة كلمة (الاغتيال) واليوم في اللغة الإنكليزية تعني كلمة (أساسينيشن Assasination ) الاغتيال.

الاغتيال كما نرى موجود في كل ملة ونحلة ولكنه يخضع لقانون سيكولوجي واحد فحيث سيطر التعصب والرؤية الأحادية للكون وامتزجت السرية بالعمل المسلح تكون مزيجا شديد الانفجار ونشأ شواذ من الناس يرون أنهم جارحة الله التي تنفذ إرادته ولهم الحكم على الموت والحياة. فيحرمون من جنتهم من يخالفهم ويرسلون إلى الجحيم من يعارضهم.

والآن نأتي إلى المنطقة الأخطر في الحديث وهو موضوع الاغتيال في الإسلام فقد دخلت في نقاش طاحن مع أحد المتشددين فقال: لقد مارس الرسول صلى الله عليه وسلم الاغتيال السياسي فماذا تقول؟ قلت له: الواقعة صحيحة وموجودة في صحيح البخاري فقد تم اغتيال كعب بن الأشرف. ولكن من يدخل قاعة العمليات ويرى الجراح وبيده المشرط وهو يشق بطن المريض قد يقع على الأرض مغشياً عليه. وهذا يعني أن أي واقعة يجب أن تفهم ضمن شروطها وظروفها وألا كان القتال في الإسلام مثل ممارسة الجراحة في سوق الخضار.

وكما أن الجراحة تجرى ضمن أشد الشروط التعقيمية صرامةً كذلك يجب معالجة مشكلة (القتال) في الإسلام ضمن شروط فكرية معقمة لأبعد الحدود. وإلا تحولت الجراحة إلى قتل والجهاد إلى إرهاب. ومعنى هذا الكلام ثلاثة أشياء: فهم ما هو الجهاد وشروطه ومن يمارسه وضد من؟ والأمر الثاني طبيعة الرحلة البشرية. والثالث: كيف نفهم تصرفات الرسول (صلى الله عليه وسلم ) مثل إعدام 800 شخص من اليهود بعد معركة قريظة بتهمة الخيانة العظمى. فأما (القتال) في الإسلام فهو غير (الجهاد). والجهاد هو استنفار الجهد لفهم وتمثل الإسلام. أما القتال فهو لرفع الظلم وليس لنشر الإسلام. وعندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول للدفاع عن المظلومين قال: لو دعيت له في الإسلام لأجبت.

والجهاد في الإسلام بتعريف مختصر «هو دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان»، ولو بالتعاون مع الكافرين (العادلين) ضد المسلمين (الظالمين).

والقتال في سبيل الله ليس (آلة) بيد جماعة أو تنظيم أو حزب يرتب لاغتيال رئيس جمهورية أو تدبير انقلاب عسكري كما فعل الترابي في السودان بدعوى أننا إذا لم نتغد بهم تعشوا بنا. أو كما صرح فقيه معتبر أن الانقلاب إذا كان أبيض فلا حرج منه. وكان حظ الترابي عظيما أنه مازال يحافظ على رأسه بعد أن انقلب عليه من انقلب معه على الآخرين. وطريقة الأنبياء في صناعة السياسة والحكم والمجتمع تتم من خلال تغيير المجتمع سلمياً ولقد جاءك من نبأ المرسلين.

وإذا فهمنا هذه النقطة اقتربنا من حل المشكلة وهي أن الإنسان لا يقتل من أجل رأيه بل من أجل ممارسته القتل. وعندما تم اغتيال كعب بن الأشرف فقد جاء ضمن حرب مستعرة بين طرفين في صورة دولتين بينهما قتل وقتال. مثل حرب الاستخبارات بين روسيا وأمريكا يسقط فيها ضحايا بين حين وآخر. وإسرائيل قامت باغتيال علماء ذرة عراقيين. ولم يكونوا بخطورة رجال فروع أمنية يخططون للقضاء عليها.. مع هذا فإن الإشكالية لا تحل كلية بين التصور لعمل استخباراتي وعمل نبي.

وهذا ينقلنا إلى الشق الثاني من البحث وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم في ممارسة معينة كان يمارس نشاطاً إنسانياً مناسباً لظروف تخصه. وما يصلح في وقت لا يصلح في وقت آخر ومكان مختلف وأقوام جدد. ولو بعث في عصرنا لتصرف أمام نفس الواقعة على نحو مختلف. وهذه النقطة لا يفهمها المتشددون فيخطئون ثلاث مرات: (1) بمحاولة اغتيال رؤساء ومسؤولين وضرب الأبراج في نيويورك تحت هذا المسوغ. (2) والغفلة عن (علل) النصوص الذي يجعلنا نطبق في مكان ما نمتنع عن تطبيقه في مكان آخر. (3) وعدم الانتباه إلى تطور التشريع.

واليوم تتراجع الجراحة كلية ولم نعد نشق بطن المريض بل نعالجه بثلاثة ثقوب بسيطة. كما أن فهم علل الأمراض قد يجعلنا في المستقبل نستغني عن الجراحة كلية. وهذا ليس انتقاصا من قدر الجراحين ولكن الصحابة عالجوا جرح الصحابي سعد بن معاذ في الشريان الأبطي بحرق حصيرة ووضعها فوق الجرح وكان هذا أفضل شيء يومها. واليوم تقوم الجراحة بإعادة تصنيع الشريان بعملية بسيطة. وإذا فهمنا هذه التطبيقات الطبية فإنها قد تنفعنا في فهم علاجات اجتماعية مثل حادثة اغتيال كعب بن الأشرف وحادثة بني قريظة وأنها كانت وقائع عادية يومها، وتنقلب إلى ممارسة مختلفة لو جاءت في زماننا الحالي. وهو فهم قد ينفع فيمن يسمح لعقله بالحركة. ولكنه لا يفلح أبدا في إدخال القناعة إلى عقل إنسان متشدد يقرأ النصوص بعيون الموتى. فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين.