الالتفاتة التركية المتريثة نحو الجار العربي

TT

سيبقى الأمر التركي يشغل البال العربي الى ان يقرر الحكم الجديد تصحيح مسار العلاقة مع الجيران العرب. وتلك مسؤولية كبرى تقع على عاتق هذا الحكم، كون النسيج الذي يتكون منه كيانه يختلف عن نسيج الذين سبقوه. كما أنه من منطلق اسلاميته يبدو مطالَباً بتمتين الروابط مع العرب، اخوانه في الدين، وبحيث يشعر هؤلاء بالطمأنينة الغائبة عنهم منذ أن غاصت تركيا في سراديب علاقة تثير الشبهات مع اسرائيل.

بعد فوز حزب «العدالة والتنمية»، افترضنا ان هذا الحزب صاحب الرؤية الاسلامية المستنيرة سيحقق ما لم يتحقق في مسيرة العلاقات العربية ـ التركية، وأن زعيم هذا الحزب طيب رجب اردوغان لا بد سيلجأ الى صيغة التصحيح. وازداد يقيننا بعدما اختار الحزب عبد الله غول ليكون رئيساً للوزراء، وذلك لأن التهمة التي سبق توجيهها الى اردوغان وصدر عليه بخصوصها، عام 1998، حكم قضائي، تتعلق بـ«التحريض على الحقد الديني»، حالت دون خوضه الانتخابات. والذي عزز هذا اليقين، أن اردوغان سيكون، ما دام لن يشغل منصب رئيس الوزراء بسبب التهمة المشار اليها، متفرغاً للقيادة من وراء الستار، وسيكون لديه المتسع من الوقت للتصحيح المطلوب. كما أن اليقين ازداد بعدما اعلن عبد الله غول عن تشكيل الحكومة الاسلامية الاولى في تاريخ تركيا الحديث، واختار لمنصب وزير الخارجية الدبلوماسي المتمرس بشار ياكش، كونه خبيراً في الشؤون العربية، ويتقن لغة الضاد الى جانب الانكليزية والفرنسية، وسبق له أن عمل سفيراً لدى المملكة العربية السعودية ومصر، بعدما عمل مستشاراً في السفارة التركية في دمشق. وهو قبل أن يصبح عضواً مؤسساً في حزب «العدالة والتنمية»، كانت رشحته بلاده في العام 2000، لمنصب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي، لكنه انسحب من السباق لأنه لم ينجح في الحصول على الدعم الكافي كي يتبوأ هذا المنصب في المنظمة التي تضم 57 دولة. ومثل كفاءة كهذه تحتاجها بالفعل العلاقة العربية ـ التركية، وقد لا يتوافر هذا الظرف بسهولة، حيث أن الحكومة اسلامية والرجل صاحب خبرة في الشؤون العربية، ولا بد أنه يقدِّر كثير التقدير الحساسية المتأصلة في النفس العربية الناشئة عن العلاقة التركية ـ الاسرائيلية المبالَغ في ترابطها، وكيف أن هذه العلاقة كانت في استمرار على حساب الجار العربي تشكل تهديداً له. أو فلنقل انها كانت وما زالت في استمرار بمثابة الشوك الذي يدمي في الخاصرتين السورية والعراقية.

بدل الالتفات نحو الجار العربي انشغل اردوغان بحاله من جهة، وبالسبيل التي تحقق له ترؤس الحكومة، وهذا لن يحدث الاَّ في حال اجراء تعديل دستوري يجاز له بموجبه خوض انتخابات فرعية ستأتي نتيجتها بالتأكيد لمصلحته، هذا اذا هو لم يفز بالتزكية، لأن احداً لم يرشح نفسه ضده. ومن جهة اخرى يريد ادخال الطمأنينة الى نفوس جنرالات المؤسسة العسكرية كي لا يفعلوا به ما فعلوه من قبل بنجم الدين اربكان. وهو مقدمة لذلك، حرِصَ عندما أسس مع آخرين حزب «العدالة والتنمية» قبل ثمانية عشر شهراً من الانتخابات التي جرت منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، على التأكيد بأن حزبه اسلامي انما ليس امتداداً على الاطلاق لحزبي «الرفاه» و«الفضيلة»، وأنه هو شخصياً ليس تلميذاً لنجم الدين أربكان زعيم ذلك الحزب، الذي أسقطه الجيش في انقلاب أبيض عام 1997. وزيادة في التأكيد، تعامل اردوغان مع الذكرى الرابعة والستين لوفاة مصطفى اتاتورك رمز العلمانية، كما لو أنه ليس زعيماً لحزب اسلامي استحوذ في الانتخابات على 363 مقعداً من أصل 550، وانما هو يتزعم حزباً علمانياً متحالفاً مع المؤسسة العسكرية التي لها الكلمة الفصل في الحكم التركي، ولا تزال ماثلة في الذاكرة تصريحاته الأولية التي تلت الفوز المبهر لحزبه في الانتخابات، وهو فوز تزامن مع حلول شهر رمضان المبارك، ومنها قوله «اننا لسنا ضد الغرب والعلاقة مع أوروبا، وحزبنا ليس اسلامياً وانما حزب محافظ ويعارض ضرب العراق...». كما لا تزال ماثلة في الذاكرة مشاركته اللافتة في الاحتفال باحياء تلك الذكرى، وكيف أنه قال كلاماً خلاصته أنه يسير على نهج اتاتورك. وبدأ قوله «ان التزامنا المتين من جانب اتاتورك ومبادئه سيكون مرشدنا لبناء تركيا حديثة، وانني أرغب في التشديد على تصميمنا من أجل تعميق كل عناصر الارث الذي تركه لنا القائد العظيم...». بمثل قول الرئيس الراحل انور السادات عندما وقف خطيباً في البرلمان الناصري قبل دقائق من اعلان «مبايعته» رئيساً للجمهورية خلفاً للرئيس المتوفي جمال عبد الناصر، وقال مخاطباً نواب المجلس وبكثير من التأثر، وبعدما انحنى أمام تمثال لسلفه: «لقد جئت اليكم على طريق عبد الناصر وجئت بوثيقة واحدة هي بيان 30 مارس أودعها مجلسكم وأمشي قائلاً لكم: هذا برنامجه وهو برنامجي أيضاً لأنه ارادة الشعب. ولأنه ليس بمقدوري ولا بمقدور أي شخص أن يتحمل ما كان يتحمله عبد الناصر، فانه من الضروري اعادة توزيع المسؤوليات، ضماناً لأداء الأمانة كما يجب ان تؤدى الأمانة ووفاء لحق الشعب وتكريماً لذكرى قائده...». ومعروف أن كلام السادات كان تكتيكاً بغرض احتواء المد الناصري بدليل أنه بعد بضعة أسابيع من استحواذه على مقاليد السلطة والمسؤوليات، أعطى الضوء الأخضر لمن يريد رمي الناصرية وعبد الناصر بالحجارة اللفظية.

لكن اردوغان، على ما يبدو، اكثر ادراكاً لأصول اللعبة ويعرف أن المقاعد الـ363 التي نالها حزبه في الانتخابات يمكن أن تجد من يخطفها في حال ذهب بعيداً في مسألة التنصل من اسلاميته على نحو قوله في مقابلة صحافية لاحقة: «اننا لسنا حزباً يرتكز على الدين. لقد حصلنا على أصوات من كل قطاعات المجتمع ومن كل الأطراف وهذا كان قصدنا، ولا يمكن لأي احد أن يطلق علينا اسم حزب ديني أو حزب يرتكز على الدين، نحن الحزب الأقوى والحزب الوحيد في يمين الوسط...».

بالاضافة الى اجلال الأتاتوركية بغرض تطمين الجنرالات الى أن الأردوغانية ليست أربكانية، انشغل الاسلاميون المنتصرون، بعدما شكلوا حكومتهم، بطرق الباب الأوروبي معتمدين في ذلك على دعم الادارة الاميركية لهذا التوجه، من دون أن يتنبهوا الى أن هذا الدعم عنصر معوق لهم اوروبياً ومكلف داخلياً، ذلك أن الحذر الاوروبي من هذا الدعم كان واضحاً، وتعالت أصوات الى جانب الهمسات في كواليس الاتحاد الاوروبي ترفض المنطق الأميركي الذي يرى توسيع حدود اوروبا بحيث تشمل تركيا، على اساس أن ليس في صميم التفكير في انشاء الاتحاد الاوروبي ما يشترط أن تكون الدولة المنتسبة اليه مسيحية. وكان مثيراً للدهشة رفض رئيس فرنسا الأسبق فاليري جيسكار ديستان فكرة انتساب دولة مسلمة مثل تركيا، تعداد سكانها حوالي سبعين مليون نسمة، لأن ذلك قد يعني، على المدى البعيد، «نهاية الاتحاد الاوروبي». وقد تسببت هذه الاصوات وتلك الهمسات في تأجيل البت في مسألة انتساب تركيا الى الاتحاد الاوروبي سنتين، والنظر في قبولها عضواً اسلامياً وحيداً داخل الاتحاد في حال كان هنالك تحسُّن جوهري في مسألة حقوق الانسان في تركيا. وقد ساعدت زيارات قام بها اردوغان الى بعض الدول الاوروبية، فضلاً عن لقاءات ثنائية تركية ـ اوروبية من جهة وتركية ـ اميركية في أنقرة وفي واشنطن من جهة اخرى، على تهدئة المخاوف الاوروبية. لكن البال التركي استمر على انشغاله من دون الالتفات نحو الجار العربي. ثم بدأ الضغط الاميركي على اسلاميي تركيا الجدد، أو بالأحرى على« تركيا الاردوغانية»، من أجل أن تكون حكومتهم السند الاسلامي في حرب جورج بوش على العراق. وتم ارفاق المطالب في هذا الشأن بمغريات ووعود بإلغاء الديون في اطار صفقة تبلغ المليار دولار. وهنا يبدو الأردوغانيون أمام الامتحان العسير الذي هو امتحانهم الأول في ما يتعلق بالجيران العرب: هل يحاربون العراق الى جانب الادارة الاميركية والحكومة البريطانية واسرائيل، ام تفعل بهم اميركا وبمساعدة جنرالات المؤسسة العسكرية ما سبق أن فعلته بنجم الدين أربكان؟ وحتى إشعار آخر ليس واضحاً ما الذي سيفعله أردوغان؟ وأي تخريجة سيتوصل اليها بحيث اذا كان لن يستأثر بكل شيء، فعلى الأقل لا يخسر كل شيء.

ويبقى اننا عندما نلاحظ أن الالتفات الأردوغاني نحو الجار العربي لم يحدث حتى الآن، لا ننكر أهمية أن اخواننا الاتراك الأردوغانيين ما زالوا في حالة تأمل في العلاقة التركية ـ الاسرائيلية الموروثة، لا يدرون ماذا سيفعلون في شأنها، حيث انهم لا يريدون تطويرها وغير قادرين على تخفيض مستواها. لا يحبون زيارة اسرائيل ويفضلون لو أن الاسرائيليين لا يزورونهم. لكن ذلك لا يعني أن تبقى تركيا على الكتف العربي بينما الأواصر شبه مقطوعة مع الجيران الذين أثلج صدر معظمهم فوز الاسلاميين، على أساس أن مثل هذا الفوز سيفتح النوافذ أمام الهواء النقي ليدخل الى تركيا، ويقفل ما أمكن اقفاله من الأبواب التي جعلت سماء العلاقات ملبدة بالهواء الذي عملت اسرائيل طويلاً في الماضي على تلويثه، ووصلت في سعيها الشرير هذا، الى حد أن اليهودي الذي يحتل بيت المقدس بات أقرب الى نفس المسؤول التركي من الجار العربي. كما أن الحال وصلت الى حد أن بعض المسؤولين الأتراك من مدنيين وعسكريين يزورون اسرائيل، وتشمل زياراتهم تفقُّد بعض المواقع في الجولان، الارض السورية المحتلة. كما وصلت الحال الى أن مفهوم العلاقة الاستراتيجية انقلب بحيث بات التركي حليف الاسرائيلي ضد أخيه العربي المسلم.. وهو مفهوم من الصعب علينا كعرب التسليم بأن الحقبة الأردوغانية ستأخذ به وتكرسه كأمر واقع. وعلى هذا الأساس ستظل أنظارنا شاخصة نحو تركيا لنعرف متى ستحدث التفاتتها نحو الجار العربي، ومتى سيبدأ ياكش المهمة المؤمل قيامه بها، وهي جولة على الدول العربية بدءاً بالجيران تستهدف تبديد الانطباع السائد بأن التركي لا يمكن أن يكون، أو انه لن يستمر، حليف الاسرائيليين ضد الأخ العربي. ونقول ذلك على أساس أن هذه الالتفاتة اذا كانت لن تحدث في عهد اردوغان، فهي لن تحدث في عهد آخر، وقد لا تحدث ابدا.