الاستنساخ الآخر

TT

في عالم اليوم، كما في العالم قبل ستة قرون، كما في العالم قبل ثلاثين قرناً، كما في العالم قبل قرن، لا جديد في الامر. في عصر الاقمار الصناعية، او في عصر الخيول، او في عصر العربات التي تجرها الثيران، لا جديد في الأمر والقاعدة واحدة. وخلاصة هذه القاعدة انه ليس هناك قضية معزولة ولا دولة معزولة، لا في الحرب ولا في السلم. والتأثير الذي لتركيا اليوم في موضوع العراق يعيد دورها قبل مائة عام. والدور الذي لايران يذكر بموقعها قبل ألفي سنة. انها حتميات الجغرافيا ومكررات التاريخ. وكلاهما يتحرك مثل المد والجزر في كل اتجاه. واذا لم يتحرك وبقي مكانه، تحركت مفاعيله.

لاحظ هذه المفارقة: اذا تحركت تركيا واعطت اميركا التسهيلات التي تريد، فسوف يكون ذلك في اهمية «عدم التحرك» الايراني في اي اتجاه. التحرك التركي والجمود الايراني لهما تأثير واحد على الحرب: سد الابواب في وجه العراق! منذ ثلاثة آلاف عام والتفاعلات واحدة بين اهل الجوار، سواء كانت الامبراطورية فارسية او عبّاسية او عثمانية، إما يتحالفون او يتحاربون او يتمددون عبر الحدود.

الآن تقف ايران موقف المتفرج على حرب بين خصمين. لا تعين ولا تستعان. لكن السلب هنا في اهمية الايجاب. وتقف تركيا الاسلامية موقف تركيا العلمانية: تحاول جهداً او تُعذرا. تطلب السلام في كل مكان، لكن اذا لم يتحقق سوف تعلن انه ليس في امكانها ان توقف الحرب. فالمسألة الحقيقية بالنسبة الى ايران وتركيا، هي عراق «اليوم التالي»، او عراق ما بعد الحرب. اما عراق ما قبل الحرب فهو كتاب مفتوح امام الجميع: حرب السنوات الثماني مع ايران ثم حروب تركيا في مطاردة الاكراد داخل الحدود على نحو روتيني. «معاهدة» يمزقها الرئيس العراقي على التلفزيون في وجه الجارة الايرانية، ثم تجاهل تام ـ في الوقت نفسه ـ للجارة التركية. واحدة لها احلام في الجنوب وواحدة لها كوابيس في الشمال.

«الواقعية» في السياسة امر لا خيار. وفي الحروب على كل فريق ان ينتقي الاكثر ملاءمة له وليس الاكثر حماساً. وقد مارست ايران وتركيا حيال العراق سياسات «واقعية» بلا حدود. فأفاد الفريقان من النفط العراقي المحظور الى اقصى الحدود الممكنة ولكن من دون تطوير اي علاقة مع النظام نفسه. وبذلك لم تغضب تركيا حليفها الاميركي ولا اغضبت ايران المرارات الناتجة عن الحرب. ومارست الدولتان، كل لحسابها ومن وجهة نظرها وتبعاً لمصالحها، السياسة نفسها حيال حرب افغانستان.

فالرومانسية السياسية نهج عربي ليس مألوفاً في طهران او في انقرة. والدولتان تقدمان المصالح على الشعارات. ولذلك يبدو موقفهما الآن هو الاكثر دقة في صورة الحرب، والموقف هنا ليس ما سيقال من كلام في الصحف بل في ما سيبدو من تصرف عندما تدخل التطورات مرحلتها الاخيرة.

الموعد يقترب وكل شيء يتكرر مثل عقارب الساعة. الرئيس العراقي يتهم المفتشين بالجاسوسية، ووزير الخارجية يعد الحملة الاميركية «بمزابل التاريخ»، وهو المكان الذي كانت تخصصه الشيوعية كمدفن مفتوح للرأسمالية، والعرب يحاولون في خفر البحث عن حل يحمي العراق من الضربة ويجد مخرجاً للنظام، والاتراك يقولون الكلمة الاخيرة قبل ان يرفعوا ايديهم في الهواء علامة اليأس.

الى اين اذن؟ الى حيث تعرفون. ثمة ثلاثة آلاف عام من التاريخ، والف الف عام من الجغرافيا، ورحلة طويلة الى الجدار.