من إبداعات الفنون الإسرائيلية: فن التعذيب بالقُرعة

TT

في الأسبوع الأخير من السنة الماضية وطَوال الأسبوع الأول من السنة الجديدة طفح كيل الإعلام العالمي بالأنباء المُرعِبة عن بلوغ معاناة الشعب الفلسطيني على يد جلاده الإسرائيلي السقف الأعلى الذي لم تبلغه معاناة أي شعب في تاريخ مقاومة المستضعَفين للجبابرة العُتاة الغاصبين.

ربما كان الجلاد الإسرائيلي قد صعَّد تعذيبه للفلسطينيين ليختم السنة بسجل مثقل بالمآسي الفلسطينية كي تكون حصيلة سنة قمعه الجهنمي إيجابية بجميع المعايير، وأرقامها قياسية بجميع التقديرات.

وقد نجح في ذلك بكل تأكيد. فلن يتحدث التاريخ عن قمع شَرِس وعنف فظيع أكثر مما عاناه شعب فلسطين، خاصة منذ وصول شارون إلى ذروة الحكم، واستقالة الرئيس بوش الثاني من رعاية عملية السلام، وإطلاقه الحبل على الغارب لشارون ليفعل بالفلسطينيين ما يلذ له ويحلو. وما أكثر ما يلذ ويحلو له من فظائع!

وتصعيد شارون لعمليات التعذيب مَرَدُّها أيضا إلى قرب حلول استحقاق الانتخابات التي ستجري بإسرائيل في يوم 28 من هذا الشهر. وهو يريد أن يجابه ناخبيه بسجل إنجاز كبير مثقل بالجرائم التي ارتكبها بحق الفلسطينيين حتى يظفر بثقة أغلبية شعبية كبرى تفوض له إبادة شعب فلسطين بالكامل. وهو ما يتحرق شوقا إلى إنجازه في خاتمة المطاف.

أعطى الإسرائيليون في ختام السنة المنصرمة أنباء مدققة عن عدد من قتلوهم في فلسطين منذ الانتفاضة التي بلغت من العمر 27 شهرا وقالوا إنهم يبلغون 2073 فلسطينيا ولم يذكروا عدد القتلى الإسرائيليين الذين كشف الإعلام العالمي أنهم بلغوا 685. وهو ما يعني أن عدد المقتولين الفلسطينيين المُعترَف من لدن إسرائيل بقتلهم قد بلغ رقما لا يسقط عادة إلا في الحروب النظامية، بل الأكثر من ذلك أن يشير رقم القتلى الإسرائيليين (685) إلى أن الخسائر البشرية التي أوقعتها الانتفاضة بإسرائيل تجاوزت بكثير ما فقدته إسرائيل في حروبها مع العرب منذ نشأتها سنة 1948 وإلى اليوم. بالإضافة إلى أن هذه الحروب كانت جميعها خاطفة وكاسحة ولصالح إسرائيل دائما، بينما لا يبدو أن الانتفاضة الفلسطينية تقترب من نهايتها، أو أن حجم الخسارات البشرية التي يتكبدها الطرفان سيعرف في المدى المنظور تراجعا.

للحرب التي شنتها إسرائيل على الانتفاضة خصوصيات تتميز بها عن الحروب، فالحروب المعتادة تخرب وتدمر المنشآت العسكرية ولا تستهدف بسبق إصرارٍ البيوتَ والمكاتب والمدارس والجامعات، ولا تصيب المنشآت المدنية إلا نادرا وعن غير قصد. أما حرب إسرائيل الجارية فوق أرض فلسطين فإنها تَدُك بتخطيط سابق البيوت على أهلها ثم يأتي الجيش الإسرائيلي لينتشل الأنقاض البشرية من رُكامها لا ليدفنها ولكن ليقوم بعمليات تمثيل وتكسير للعظام والمفاصل ببرودة دم.

ومن الأنباء التي بثها الإعلام خبر يقول إن الجيش قد هدم ودمر بيت سَكَن لأسرة مقاوم من الخليل قام بعملية فدائية قبل أسبوعين واسْتُشهِد فيها، لكن حكم الانتقام من أسرته إنما صدر بعد موته ودفن جثته. وزاد النبأ يقول: «وإن تدمير بيت أسرته قد تم بينما كانت الأسرة تحاول الفرار من البيت فحال بينها الجيش الإسرائيلي وبين انقاذ أرواح ساكني البيت»... يا للفظاعة!

وفي كل يوم نشاهد على شاشات القنوات الفضائية مشهدا مُرْعِبا عن حرب أطفال الحجارة الفلسطينيين الذين يقذفون بها الدبابات أو مُشاة الجيش الإسرائيلي الذين يخوضون مع الأطفال حرب شوارع وحارات ودروب ضيقة، ونرى كيف أن هؤلاء الأطفال يُصْرَعون بالرصاص الحي بينما لا تصل الحجارة إلى أهدافها وبالأحرى أن تصيب مقتل جندي إسرائيلي واحد.

وأكثرية الضحايا الفلسطينيين هم من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة الذين تداهمهم الغارات الاسرائيلية بَياتا أو هم نائمون، أو تختارهم إسرائيل للانتقام منهم إثر عملية فدائية مُدَشِّنة بذلك شريعة جديدة تقوم على أن «الجاني» يعاقَب بقتله وقتل أسرته وذويه. وهي شريعة أقسى وأفظع من شريعة الغاب البائدة.

وكل ما يُسمَع من غريب الأنباء من «إبداع» إسرائيل لفن التعذيب الذي تُجريه على الفلسطينيين يؤكد أنها تمارس هذا الفن بمكر وبرودة دم، وتُجري تجاربه على الفلسطينيين وهي آمنة مكر الله ومستهزئة بسكوت المجتمع الدولي الذي تخلى عن دوره في النهي عن المنكَر والتنديد بالفظائع المرتكَبة على فلسطين أرضا وشعبا.

والتعذيب بالتدمير والتخريب فن فريد من نوعه غير مسبوق في التاريخ الذي تحدث خاصة عن «الوندال» الذين ظهروا في القرن الخامس الميلادي وكانوا مجموعة قبائل من أصول جرمانية لا حضارة لها فأسسوا بجانب إسبانيا مملكة «باندونيسيا» وقام عليها الملك جنصريق وتقدم بجيشه غازيا أراضي جيران مملكته مثل بلاد الغال (فرنسا) وإسبانيا وأفريقيا الشمالية وأُثِر عن جيشه أنه كان يدمر كل ما وجد في طريقه من بنيان وعمران ومآثر تاريخية. وقد اشتهرت هذه المملكة باسم امبراطورية الوندال، ثم أصبحت كلمة الوندالية (Vandalism/e) تعني نزعة التدمير والتخريب وترحيل السكان عن مواطنهم. وهو ما يفعله اليوم شارون في عهد ازدهار الحضارة. ومن حقه على التاريخ أن يُسجِّل له اختراع «فن» التدمير والتخريب والترحيل الذي يجريه على الفلسطينيين باسم «الشارونية» (Charonism/e) التي تصبح مرادفة لكلمة الوندالية (Vandalism/e) وبذلك يتخلد اسم شارون في التاريخ كما تخلد اسم الونداليين المدمِّرين المخربين.

أمامي وأنا أكتب هذا المقال مجموعة صحف بلغات مختلفة صدرت هذا الأسبوع تحمل هذه العناوين: «شارون يدكُّ بيوتا في الخليل على ساكنيها انتقاما من عملية فدائية». و«شارون يكلف قوات الاحتلال قتل خمسة فلسطينيين في أقل من 24 ساعة».

و«شارون يهيب بجيش الاحتلال أن يضاعف عمليات اغتيال المشتبَه في انتمائهم لحركة المقاومة». و«لجنة الانتخابات الإسرائيلية تمنع مواطنين عربا إسرائيليين من ممارسة حق الانتخاب». و«شارون متورط في عمليات فساد سياسية ولا أخلاقية هو وحزبه الليكود». و«سجن عوفر في بلدة بيتونيا (قرب رام الله) مسرح مواجهات بين جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين اقتحموا السجن وبين المعتقلين أسفرت عن إصابة 380 أسيرا فلسطينيا بحالات اختناق وجروح وحروق، بالإضافة إلى ضرب الجيش بمقالع الحديد للسجناء وإيذائهم وإهانتهم». و«ناشطة سلام بريطانية يرحّلها الجيش الإسرائيلي بالقوة عقابا لها على اتهامها القضاء والشرطة الإسرائيليَّيْن بالتواطؤ مع إرهابيي المستوطنات الذين يقتلون ويفسدون في الأرض».

وهل ينسى أحد مأساة جنين الدامية وتورط الجيش الإسرائيلي في قتل الفلسطينيين وإحراق الأرض وتدمير المدينة وامتناع شارون عن قبول لجنة التحقيق الأممية وما ترتب على ذلك من إقبار هذه الفضيحة الكبرى؟

بيد أن الأفظع والأنكى من ذلك كله ما أذاعته محطة «البيبيسي» البريطانية (المعروفة بجديتها وموضوعيتها وتحريها في نقل الأنباء) في صبيحة يوم الأربعاء الأسبوع الماضي كما يلي: «أخذ الجيش الإسرائيلي يطبق على الفلسطينيين الذين يعتقلهم التعذيبَ عن طريق القرعة، حيث يسحب بطاقة من بين البطائق تحمل شكل التعذيب الواجب إجراؤه على المعتقل وينفذ فيه حكم القرعة».

بطاقة تحمل عبارة: «ضَرْب المعتقل بمقمع البندقية إلى أن يُغمى عليه». وأخرى تحمل «تكسير عظام المعتقل عظما عظما ومفصلا مفصلا». وثالثة «تصويب رصاصة قاتلة إلى رأس المعتقل». ورابعة «تصويب رصاصة قاتلة إلى قلب المعتقل» إلى غير ذلك مما جاء في تقرير البيبيسي، مما يُرعِب ويؤلم ويفضح جهنمية فن التعذيب الإسرائيلي مختلف الأشكال والألوان.

لم أصدق في بداية استماعي لنشرة «البيبيسي» ما جاء في هذا التقرير الذي لا يصدقه عاقل ولا يصل إلى تخيُّله خيال. لكن البيبيسي أردفت بث هذا النبأ المخزي بتصريحات صوتية لبعض المحامين ونشطاء حقوق الإنسان الذين أجمعوا على أن هذا التعذيب الجهنمي أصبح يُطبَّق على الفلسطينيين بحكم القرعة، ما يعني أن شارون لا يُنزل الأحكام القاسية بضحاياه إلا استناداً على قواعد العدل والإنصاف لأن القرعة تُسوّي في اختيار شكل التعذيب بين الضحايا ولا تظلم أحدا، فكل واحد يُعذب أو يموت كما «نطق به سهمه». وصباح يوم الإثنين 6 يناير الجاري عادت «البيبيسي» إلى الحديث عن هذا الموضوع بعد تأكدها من صحة النبأ الذي بثته الأسبوع الماضي ولم تكذبه إسرائيل.

شارون مريض بجنون كراهية شعب فلسطين ومراهن على إبادته جماعات وأفرادا. والجنون فنون كما يقال. وفن التعذيب الشاروني أبدعُها على الإطلاق لأنه يمارسه على الفلسطينيين بشهوة التّلذذ والاستمتاع وبماسوشية (Masochism/e) يتميز بها ذوو الشذوذ الجنسي.

وهنيئا له بهذه السمعة التي لن يحصل غيره على مثلها. وسيُسجَّل اسمه بارزا في التاريخ بما يستحقه.