كوريا الشمالية تتحدى أمريكا

TT

يفجر موقف كوريا الشمالية المتحدي للولايات المتحدة الأمريكية، قضية دولية تتضح دعائمها من وقوف الضعيف في وجه القوي، وتحقق نتائجها بالانتصار عليه وتصل بأبعادها فوق المسرح الدولي إلى فرض إرادتها بالوقوف في وجه أمريكا ومنعها من الهيمنة عليها.

دوي الانفجار من موقف كوريا الجنوبية جاء أكثر قوة في الأوساط العالمية، وأكثر تأثيراً على أمريكا بعد أن أعلنت سيوول رفضها للتدخل الأمريكي في كوريا الشمالية لما فيه من مساس مباشر باقتصاديات الدول الآسيوية، وأكد الرئيس الكوري الجنوبي كيم داي جونج بأن بلاده لن تسمح لأمريكا باغتيال النمور الآسيوية مرة أخرى كما فعلت في نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي حتى لا يتردى النشاط التجاري بعد أن استعاد أنفاسه في التجارة الدولية، ولكن بارك سون سوك الناطق الرسمي باسم الرئيس الكوري الجنوبي، أعلن عدم معارضة سيوول لفتح حوار سياسي بين واشنطون وبيونج يانج في سبيل الوصول إلى أرضية يتم فوقها التفاهم حول الخلافات القائمة بينهما في شأن الأسلحة النووية، وذهب بارك سون سوك إلى أن الحوار قضية جوهرية لأن بلاده تشعر بالخطر من استئناف تشغيل المفاعل النووي في كوريا الشمالية وتشعر بنفس الخطر من فرض الهيمنة الأمريكية على كوريا الشمالية، لأن كليهما يخلخل الأمن الإقليمي ويدمر مقومات السلام العالمي.

ولكن واشنطون لم تفهم بدقة موقف سيوول الرافض الاستمرار في النشاط النووي في بيونج يانج والمعارض في نفس الوقت تدخل واشنطون في كوريا الشمالية واخضاعها للهيمنة الأمريكية، وتجاهل موقف سيوول دفع روبرت اينهورم الرئيس السابق للشعبة الآسيوية بوزارة الخارجية إلى القول بأن التساهل مع كوريا الشمالية يقضي على الاستراتيجية التي وضعناها والرامية إلى احتواء آسيا، وطالب بضرورة التحرك الأمريكي القوي صوب كوريا الشمالية لمنع نشاطها النووي، وإن لم تفعل ذلك فوراً لدمرت استراتيجية الاحتواء لآسيا التي قضينا في بنائها سنوات طويلة، وتدميرها يعني التضحية بالخطط الأمريكية الرامية إلى حكم العالم، والقضاء على الاستقرار العالمي تحت مظلة الهيمنة الأمريكية.

رد على هذا الموقف الأمريكي المصر على هيمنة أمريكا على العالم الذي تؤكده استراتيجية الاحتواء التي تحدث عنها السفير روبرت اينهورم بإيعاز من اليمين المتطرف في الإدارة الأمريكية، سفير كوريا الشمالية في روسيا باك يوشون الذي أعلن من موسكو عن حق بلاده المطلق في امتلاك الأسلحة النووية طالما تواجه تهديداً نووياً من أمريكا واستند في رده على أمريكا إلى أحكام القانون الدولي العام التي تعطي كل الدول بدون استثناء حق الدفاع عن نفسها، وقرر إذا كانت توجهات الأسرة الدولية ترمي إلى تطهير الأرض من الأسلحة النووية فإن هذا التوجه يتطلب من كل الدول المالكة له العمل على التخلص منه، وتأتي في مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول الأعضاء في النادي النووي الدولي، وأكد بأن بلاده ملتزمة بهذا المنطق الاستراتيجي، ولن تحيد عنه لقناعتها بأن الاحتفاظ بأسلحتها النووية يحقق لها الحماية من الخطر النووي المحيط بها بالمجابهة النووية له، ليتحقق من خلال هذا التوازن النووي، الاستقرار الدولي العادل بعيداً عن الهيمنة العلنية التي تسعى إليها أمريكا وكبحاً للهيمنة الخفية عند غيرها من الدول النووية لمنع سيطرتها على غيرها من الدول، على المستويين الإقليمي والدولي.

تلقّى البيت الأبيض هذا الموقف الكوري الشمالي الذي جاء على لسان سفيرها في روسيا باك يوشين، بامتعاض شديد بعد أن اعتبره تحدياً سافراً لأمريكا التي لم تجرؤ أي دولة على الوقوف في وجهها متحدية منذ قيادتها للجناح الغربي للعالم في مواجهة الجناح الشرقي منه بقيادة الاتحاد السوفياتي، في مرحلة الحرب الباردة الممتدة من بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 الى سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، وزاد من غضب البيت الأبيض تطاول كوريا الشمالية على الدولة الاعظم في هذه المرحلة التاريخية ومحاولة فرض شروطها على اتفاقية الحد من الأسلحة النووية بعد ان وقعت عليها بيونج يانج، وظهر هذا الغضب في كلمات اري فلايشر المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض التي جاء فيها أن الموقف الكوري الشمالي يستوجب انتقاده ورفض التعامل معه، وعليه فإن واشنطون ترفض استئناف الحوار السياسي مع بيونج يانج بعد أن لجأت الى التهديد وأعلنت تخليها عن التزاماتها التي تعهدت بها أمام المجتمع الدولي، وطالب كوريا الشمالية الوفاء بالتزاماتها والبدء فوراً في التخلي عن مشاريعها النووية.

غير أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي قام بتكليف من الرئيس جورج بوش بالتوسط لدى كوريا الشمالية للحد من أسلحتها النووية، سارع الى دعوة واشنطون من اوسلو بعد استلامه لجائزة نوبل للسلام الى إعادة النظر في موقفها مع بيونج يانج، مشيراً في رسالته إلى الرئيس جورج بوش الى ان الصين الشعبية تقف وراء كوريا الشمالية وتدعم موقفها النووي الراهن ونصح البيت الأبيض التعامل بمرونة كبيرة مع قضية السلاح النووي في كوريا الشمالية ويبدو ان الإدارة الأمريكية اخذت بنصيحة جيمي كارتر فأعلنت عن رغبتها في إجراء حوار موسع مع حكومة كوريا الشمالية في سبيل الوصول إلى حل عملي لأزمة السلاح النووي معها وجاء على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش في منتصف شهر نوفمبر 2002 بأنه يسعى إلى إقامة علاقة صداقة حميمة مع الرئيس الكوري الشمالي كيم يونج ايل حتى يتحقق من خلال هذه الصداقة الحميمة تفاهم واشنطون وبيونج يانج على الأسلحة النووية التي تمتلكها كوريا الشمالية وتمنى الرئيس جورج بوش في ختام كلمته العلنية الموجهة إلى كوريا الشمالية مستقبلا افضل لها دون ان يحدد معالم هذا المستقبل إن كان باستمرار امتلاك بيونج يانج للسلاح النووي او بعد التخلص منه.

رد الرئيس الكوري الشمالي كيم يونج ايل على ما جاء في كلمة الرئيس جورج بوش معلنا ترحيبه بالصداقة الحميمة معه وتفاهم بلاده مع واشنطون اذا اقتنعت بضرورة استمرار امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي مؤكداً بوضوح بأنه ماض في امتلاك وتطوير سلاحه النووي ليجعل منه مظلة حماية للوطن والمواطن من اخطار التهديد النووي ضد كوريا الشمالية.

قلب هذا الموقف الكوري الشمالي الصارم الموازين الأمريكية وجعلها تدخل في التناقض مع نفسها لأنها في الوقت الذي تقبل مرغمة بالسلاح النووي والعمل على تطوره في كوريا الشمالية، ترفض بشدة وإصرار مساعي العراق إلى امتلاك هذا السلاح النووي، وارسلت اليه بواسطة الأمم المتحدة المفتشين الدوليين وهددت الوطن العراقي بالحرب بشبهة امتلاكه للسلاح النووي في الوقت الذي تمد يدها طلبا للصداقة مع كوريا الشمالية المتمردة عليها والمتحدية لها بالسلاح النووي الذي تصر على امتلاكه وتطويره، وتذهب المعارضة في داخل أمريكا والموقف الدولي الرافض للحرب الى ان غض طرف البيت الأبيض عن الأسلحة النووية في كوريا الشمالية يلغي كل مبرراته في دخول الحرب ضد العراق.