ماذا يُغضب «جاردن سيتي» من أميركا؟

TT

من نافذة منزلي المطل على «دار الحكمة» ـ التي هي نقابة الأطباء المصريين (الحُكمَا بالتعبير المصري) ـ تتسلل دوماً الى سمعي، خطب الدعاة الاسلاميين، مثل الشيخ يوسف القرضاوي، الذين تستضيفهم النقابة في ندوات حاشدة للتضامن مع فلسطين والعراق. وهي خطب تختتم ـ عادة ـ بترديد الأدعية ضد الأميركيين أعداء الاسلام. وفي مسجد «جاردن سيتي»، الحي الارستقراطي العريق، وبعد أن انبرى إمام وخطيب المسجد في التهجم على أميركا، التي قال إنها تريد استعمار بلاد الاسلام والمسلمين، اختتم خطبة الجمعة بالدعاء على الأميركيين صارخاً: اللهم خرّب بيوتهم وشتت شملهم ويتم أطفالهم.

ولطالما ألفت مثل هذا الدعاء على أعداء الاسلام والمسلمين في صلوات الجمعة، وعرفت أنه كان يتلى ـ من قبل ـ ضد الانجليز المستعمرين، وضد الفرنسيين الغزاة، وضد اليهود الصهاينة.

ولما رجعت الى كتاب البروفيسور غريغوري ستاريت، الذي يحمل عنوان «اعمال الاسلام في مصر»، وجدته يرجع الدعاء على الأجانب بالابتلاء بالمصائب في صلوات الجمعة بمصر، الى الميراث التركي ـ العثماني.

ولكن ما لم آلفه من قبل في مسجد جاردن سيتي، أن أحد المصلين قام من قعدته مخاطباً خطيب المسجد: يا مولانا ادع أن يصلح الله أمورنا ويعمر بيوتنا ويجمع شملنا ويبارك في أولادنا بدلاً من الدعاء على الأميركيين. وهمهم المصلون بين مؤيد ومستنكر.

وما يحدث في نقابة الأطباء لا بد أن ينطوي على دلالة. فدار الحكمة التي شيدت في أوائل القرن الماضي على مقربة من «قصر العيني»، المستشفى العريق وكلية الطب بين أروقته، كانت رمزاً للحداثة والدخول في مضمار العلم «الغربي». ودار الحكمة كانت داراً لأطباء بلغوا مرتبة عظيمة، مثل علي باشا ابراهيم، كبير الجراحين ومدير الجامعة المصرية ومؤسس كلية الطب ورئيس مجلس الاذاعة المصرية وعضو مجمع اللغة، ومثل نجيب باشا محفوظ، أشهر أطباء التوليد الذي سمي باسمه أديب العرب نجيب محفوظ، ومثل سليمان باشا عزمي، ومحمد عبد الوهاب باشا مورو. كما كانت دار الحكمة داراً لأطباء كانوا أدباء وشعراء كبار، مثل محمد كامل حسين، مؤلف «قرية ظالمة»، ومؤسس جامعة عين شمس، ورئيس المجمع العلمي (الذي أسسه نابليون أثناء حملته على مصر)، ومثل حسين فوزي (سندباد مصر) عميد كلية العلوم والكاتب والأديب والموسيقي، ومثل ابراهيم ناجي ويوسف ادريس وسعيد عبده. كما كان بين الأطباء سياسيون مرموقون مثل حافظ باشا عفيفي (رئيس الديوان الملكي) ورؤساء حكومات مثل نور الدين طراف وفؤاد محيي الدين، ووزراء مثل مراد غالب وزير الخارجية خلال حكم عبدالناصر.

أما حي «جاردن سيتي» فلم يزل «كوزموبوليتاني» لا يبعد إلا خطوات عن ميدان التحرير (ميدان الاسماعيلية سابقاً نسبة الى الخديوي اسماعيل) الذي تنتصب على جنباته عمارات من الطراز الامبريالي الفرنسي بنيت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تتلألأ فوقها لافتات دعاية مضاءة بالنيون لمنتجات العصر العولمي ـ الاميركي مثل «ماكنتوش» و«آي.بي.ام» و«ماكدونالدز» و«موتورولا».

ولكن ما حدث في «جاردن سيتي»، المسجد ودار الحكمة، يكشف عن مفارقة هي أنه حتى قلب القاهرة، الحداثي الكوزموبوليتاني المتغرب، يعبر عن «كراهية أميركا».

وتقع هذه المفارقة ضمن مفارقة أهم هي أن المصريين يكرهون أميركا، بل أن استطلاع الرأي الذي أجراه مركز pew الاميركي، ونشر بعد عام من الهجمات الإرهابية على أميركا في سبتمبر 2001، قد جعل المفارقة أكثر سخرية، عندما كشف أن المصريين هم من أكثر الشعوب العربية والاسلامية كراهية لأميركا. فقد أورد استطلاع pew أن 6 في المائة فقط من المصريين لديهم وجهة نظر إيجابية عن أميركا، وتلك من أدنى النسب في العالم، مقارنة بنسب دنيا أخرى تتراوح بين 10 في المائة في باكستان و25 في المائة في الاردن و30 في المائة في تركيا و35 في المائة في لبنان.

لقد خصص فريد زكريا، رئيس تحرير الطبعة الدولية لمجلة «نيوزويك» عدد المجلة في 16 اكتوبر 2001، للاجابة على السؤال: لماذا يكرهون أميركا؟ وتركزت الاجابة في أن كراهية العرب والمسلمين لأميركا ترجع الى انعدام الديمقراطية (لدى الأنظمة العربية والاسلامية) والدعم الأميركي لاسرائيل.

غير أن استطلاع pew يكشف عن أن الشعوب العربية والاسلامية الأكثر كراهية لأميركا هي الشعوب التي تتمتع بهامش أكبر من الحريات الديمقراطية، مثل مصر والاردن ولبنان وتركيا، وهي الشعوب التي ترتبط بعلاقات سياسية واقتصادية باسرائيل مثل مصر والاردن، وبعلاقات عسكرية واستراتيجية معها مثل تركيا.

أما في حالة مصر، وكما تثبت شواهد الحال، فإن المصريين من أكثر الشعوب العربية انفتاحاً على أميركا، سواء من ناحية الانجذاب لنمط الحياة الأميركي من مأكل وملبس وترفيه، أو من ناحية معدل نمو الداخلين الى «الانترنت»، والمفتونين بالتعليم الأميركي والتكنولوجيا الأميركية. وعندما سألت نجيب محفوظ عن رأيه في مقاطعة المنتجات الأميركية، أجاب متسائلا: هل نقاطع الكمبيوتر والانترنت والفضائيات؟،

وفي الحق أن المصريين لا يكرهون «الاميركي» كنمط حياة ومورد للتكنولوجيا، ومستثمر، ونموذج للديمقراطية، ولكنهم غاضبون على الاميركيين بسبب سياسات حكوماتهم. وللمصريين أسبابهم الوجيهة للغضب من أميركا، اذا أخذنا في الاعتبار الشيفونية المصرية، أي تعلق المصريين بالذات المصرية ـ الدولة المصرية، فحتى فلسطين يعتبرونها قضية مصرية ناهيك عن السودان، ففلسطين والسودان جرحان مصريان. ثم ان العروبة ايضا ـ وقبل تعريب مصر سياسياً بعد عبد الناصر ـ تعلقت بالدور المصري، اذ ان نخبة ما قبل انقلاب 23 يوليو 1952 تطلعت الى «تمصير العرب» بأم كلثوم وأسمهان ومحمد عبد الوهاب وطه حسين وتوفيق الحكيم والفيلم المصري. ولذا يغضب المصريون لأنهم يشعرون بأن أميركا تسقط دورهم. وقد يتناسى المصريون مسؤوليتهم في تداعي الدور المصري، فلم يعد عندهم أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب والحكيم، ولم تعد جامعاتهم تجتذب العرب، واحتضرت صناعة السينما عندهم بعد أن كانت بند الصادرات الثاني بعد القطن، وأصبح الاعلام عندهم دعاية رديئة، فضلا عن أنهم فشلوا أن يقدموا بلدهم باعتباره «نموذج التحديث السياسي والاقتصادي»، مثلما كانوا في النصف الأول من القرن العشرين.

بيد أن ما يؤجج «الغضب المصري» تجاه أميركا هو سقوط المجتمع المصري في أيدي الاخوان المسلمين والجماعات الاسلامية المتطرفة. فقد نجحت الدولة في كسر ظهر جماعات العنف التي استهدفت جهاز الدولة والاقتصاد (ضرب السياحة)، ولكن الدولة في حربها ضد الجماعات الإرهابية انشغلت عن المجتمع الذي استولت عليه حركة الاخوان وجماعات التطرف، ونجح الاسلاميون في التغلغل في المدارس والجامعات والنقابات والمحاكم والأزهر والشارع في حركة شاملة هدفها «الأسلمة من تحت» لاقامة «الدولة الاسلامية» التي عجزت جماعات العنف عن اقامتها بالعنف.

ومن عجب أن الدولة (الجهاز) ساهمت في استيلاء الاسلاميين على المجتمع، باستخدام الاعلام (تلفزيون وصحافة) في المزايدة على الاسلاميين أمام المجتمع، من خلال الواعظين التلفزيونيين والدراما التلفزيونية والكتابات الصحفية.

وكانت اثارة الغضب ضد اميركا ضمن مشروع سيطرة الاسلاميين على المجتمع، بالرغم من أن كلاً من الدولة والجماعات الاسلامية كانت تحرص على «علاقة وثيقة» مع أميركا. وكما تقول نظريات الدعاية، فإن الدعاية تخلق واقعاً اجتماعياً بعد حين، ويفترض ممن يقوم بالدعاية أن يستجيب لذلك الواقع. والواقع الاجتماعي الذي خلقته دعاية الاخوان وإعلام الدولة، هو جمهور متزايد من الغاضبين على أميركا، تكون الاستجابة له بدعاية معادية لأميركا تجد تبريراتها في السياسة الأميركية، وهكذا دواليك، لتكون النتيجة: دولة حليفة لأميركا وشعبا غاضبا من أميركا. ولكن عواقب الغضب الذي يؤججه الاخوان المسلمون ويزايد عليه الاعلام، غالباً ما تكون الاضرار بالمصلحة الوطنية المصرية، ودفع الدولة المصرية الى وضع حرج مع الحليفة أميركا، وأمام الغضب الشعبي.

بيد أن ظاهرة تديين المجتمع والاعلام تفسر لنا لماذا تعاطفت شريحة من المصريين مع من قاموا بتفجيرات نيويورك وواشنطن، برغم ان بلدهم اكتوى بنار الإرهاب طيلة عقدي الثمانينات والتسعينات، كما تفسر لنا لماذا يتعاطف بعض المصريين مع صدام حسين بزعم أن أميركا تحارب الاسلام والمسلمين.

وأخيراً، فإن ظاهرة تديين المجتمع والاعلام، تفسر لنا ما يحدث في مسجد جاردن سيتي ودار الحكمة، وتجيب على السؤال: لماذا يغضب جاردن سيتي من أميركا، برغم أنه أعرق أحياء القاهرة ارستقراطية وحداثة وتغربا؟