بشار الأسد... وحتمية أقدار يناير 1994

TT

يوم الاحد 15 ديسمبر (كانون الاول) 2002، حط الرئيس السوري بشار الأسد رحاله في العاصمة التي سبق أن أمضى حوالي سنتين متدرباً في أحد مستشفيات طب العيون فيها، قبل أن يقطع فترة التدريب ويعود الى دمشق بناء على استدعاء والده الرئيس (الراحل) حافظ الأسد له. وموجب العودة حادث سيارة وقع يوم الجمعة 21 يناير (كانون الثاني) عام 1994 اودى بحياة شقيقه الرائد باسل الأسد، على طريق مطار دمشق، وكان متوجهاً الى المطار للسفر الى المانيا. ومنذ ذلك الحادث ـ الفاجعة بالنسبة الى الرئيس حافظ الأسد وللعائلة ـ بدأت عملية تكريم واسعة النطاق لذكرى الرائد باسل وتصنيفه شهيداً، الأمر الذي يعني أنه قضى في مهمة أو في ظروف بالغة الأهمية، وبدأت في الوقت نفسه آلية تأهيل رئاسية مكثفة للطبيب بشار الذي لن يمارس المهنة التي أحبَّها وأمضى حوالي سنتين في لندن يتخصص فيها يعود بعدها الى سورية لمعالجة عيون المحتاجين الى علاج.

شملت عملية التأهيل للدكتور بشار، من جانب والده الرئيس، الأمور السياسية والعسكرية وأبرزها الملف اللبناني والعلاقة مع المملكة العربية السعودية وأسلوب التعامل مع القضية الفلسطينية. وخلال عملية التأهيل قام الدكتور بشار، ومن دون أن تكون له أي صفة رسمية بمهمات عربية ودولية. وبدا واضحاً أن لديه قدرة على الاستيعاب ظهرت جلية بعد الرحيل المفاجئ لوالده الذي كان وضعه الصحي في فترة تأهيل الابن بشار يزداد إحراجاً. وكان هذا الوضع قد بدأ ينتكس بشكل ملحوظ في أعقاب حادثة السيارة التي قضى فيها الابن باسل الذي كان واضحاً للجميع أنه هو من سيرث الحكم، وحدثت في هذا الاتجاه عدة إشارات تؤكد ذلك.

تسلَّم الدكتور بشار الحكم ضمن الأصول التي ينص عليها الدستور والطقوس الحزبية، وبدأ ما يجوز اعتبارها عملية تنقيح للتصحيح الذي على أساسه حكَمَ والده سورية عقدين من الزمن العربي الصعب، محققاً أمراً في منتهى الأهمية يتمثل في إسقاط ظاهرة الانقلابات العسكرية التي اشتهرت بها سورية. وتفادياً منه لأي مفاجآت أبقى الرئيس بشار على معظم رموز الحكم، وبدأ من خلالهم يستحدث الخطوات التي تعكس رغبته في الانتقال بالبلاد الى مرحلة الانفتاح المتأني بحيث يتم فتح نوافذ البيت السوري نافذة بعد أخرى، لا أن يكون الفتح المشار إليه دفعة واحدة فيصيب سورية ما سبق أن أصاب مصر، فضلاً عن أن الانفتاح المستعجل قد يترك انطباعاً بأن سورية الأسد الابن هي ليست سورية الأسد الأب، وبأن لا استمرارية في الأمر.

خلال السنة الأولى حقق الرئيس بشار خطوات ملموسة على طريق الانفراج والانفتاح. كما أن زواجه من أسماء الأخرس ابنة الطبيب الحمصي المقيم في بريطانيا الدكتور فواز الأخرس، شكلت لحظة تأمل في حياة الرأي العام السوري الذي ارتاح الى نظرة رئيسه الشاب الى أمور الدين والدنيا. ومن أبرز الخطوات أنه رمم العلاقة مع العراق، مزيلاً بذلك رواسب المرحلة الماضية ومن بينها مشاركة سورية في التحالف الدولي الذي قاده الرئيس جورج بوش الأب ضد العراق. وساعد الرئيس بشار على ضرورة الترميم أن لعبة ذلك التحالف تكشَّفت وأظهرت أن الإدارة الاميركية أرادت جعل ذلك التحالف بمثابة حلف لها يشبه الجانب العربي ـ الإسلامي منه حلف بغداد في الخمسينات، كما أن هذا التحالف بدا بمثابة كمين أرادت اميركا إيقاع الجميع فيه تحت ذريعة تحرير بلد عربي من أطماع بلد عربي آخر، وأرادته أمراً واقعاً يكون بمثابة البقرة التي يتواصل حلبها ومن دون أن تأخذ تلك الإدارة في الاعتبار أن حليب هذه البقرة هو لأبناء المنطقة لا أن ترعى في الارض العربية ليصب حليبها في الخزائن الأجنبية. وما نعنيه بالحليب هنا هو الثروة العربية. كما أن الذي ساعد الرئيس بشار على المبادرة الى الترميم هو أن السياسة الاميركية التي كان من المؤمل أن تتسم بالحكمة والاتزان والموضوعية، طِبقاً لما تم التفاهم في شأنه في مؤتمر مدريد للسلام، لم تكن بعد انعقاد المؤتمر على النحو المأمول منها، بل انها خيبت ظن الأطراف العربية، وبالذات الرئيس حافظ الأسد، والتي افترضت أن المؤتمر هو بمثابة التحية بالمثل من جانب الإدارة الاميركية على التحية المتمثلة بمشاركة سورية ومصر والمغرب، وكل منها بمفهوم خاص، في صيغة التحالف التي أرادها الرئيس بوش، والتي لولا المشاركة وبالذات المشاركة الأهم.. مشاركة سورية لما كان للخيمة العربية أن تكون المظلة التي تقي إدارة الرئيس بوش الأب الشمس الحارقة لحربه على العراق. لكن الممارسة الاميركية كانت بعيدة عن الظن العربي. وتزايدت الشكوك في النفوس بعدما تبينَّ أن اميركا لم تكتفِ بإعادة الكويت الى أُسرتها وأهلها وإنما تريد الاستيطان. ثم تتابعت التداعيات حيث تبَّين أنها تريد البقاء الى ما لا نهاية كي لا يشكل النضال الفلسطيني من جهة والرفض السوري ـ اللبناني للأمر الواقع من جهة أخرى تهديداً لإسرائيل. ولقد لمس الرئيس بشار، ولم يكن غادر بعد الى لندن، مدى ضيق والده من سياسة الرئيس بوش الأب، وشعر، أي الأسد الأب، أن الإدارة الاميركية خذلته وأن لقاءات منتصف الطريق مع بوش ثم الرئيس الخلف بيل كلنتون كانت تتسم بالنزاهة من طرف واحد.. ليس هو بالتأكيد الطرف الأميركي. لكن مع ذلك أبقى نافذة التعاطي مع الإدارة الاميركية مفتوحة على مصراعيها وإن كان حديث الخلوة بينه وبين مادلين أولبرايت وزيرة خارجية العهد الكلنتوني التي جاءت للتعزية بوفاة والده لم تلق الارتياح في نفسه حيث شعر أنه أمام أسلوب جديد من التحايل الاميركي الذي لن يقدم ولن يؤخر.

في ضوء ذلك عزز الرئيس بشار العلاقة مع فرنسا التي كانت وصلت الى ذروتها في الاستقبال التاريخي الذي لقيه الرئيس جاك شيراك عندما زار دمشق وواصل التنسيق الدوري مع الرئيس حسني مبارك، محافظاً بذلك على التقليد الذي سنَّه والده وسجَّل إشارة نوعية بالنسبة الى لبنان عندما زاره قبل انعقاد القمة العربية الدورية الثانية فيه لكي يؤكد سيادة هذا البلد. وأطلق في القمة المشار إليها مواقف في موضوع الصراع العربي ـ الاسرائيلي كان بدأها في القمة العربية الدورية الأولى في عمان التي كانت بمثابة الإطلالة الأولى له على مستوى القمة. وفي القمتين بدأت تظهر ملامح قدرات خطابية ومؤشرات الى عمق سياسي وإمكانات في تحليل الموقف. وكان لافتاً أنه قادر على التحدث نصف ساعة كاملة وباللغة الفصحى ومن دون أن يتعثر لسانه في مفردة من المفردات. وفي القمتين اُحيط باهتمام ملحوظ من المملكة العربية السعودية التي كانت زياراته لها قبل ذلك أساسية.

وخلال أقل من سنتين سجل إطلالة دولية بالغة الأهمية في اتجاه فرنسا وإسبانيا. وبدأ تعاطيه الإيجابي مع الموضوع العراقي يلفت الانتباه، ووصل هذ التعاطي الى حد أن دمشق باتت أكثر أهمية من عمان كجسر للعبور السياسي والاقتصادي بين العراق والعالم. ثم جاءت زيارته الى بريطانيا لتشكل نقلة نوعية في الحضور الدولي له وفي العلاقة السورية ـ البريطانية، ذلك أن الزيارة التي قام بها كانت الأولى يقوم بها في تاريخ سورية منذ الاستقلال رئيس سوري الى بريطانيا. ومنذ الساعات الأولى للزيارة بدا واضحاً أن بريطانيا تتعامل مع الرئيس بشار على أنه نواة زعامة عربية متجددة سيكون لها دورها المتميز وشأنها الملحوظ في السنوات العشر المقبلة.

وكان لافتاً كثيراً الاستقبال الذي جرى له من جانب رئيس الحكومة طوني بلير ثم من جانب الملكة التي خصته وزوجته بالمزيد من الوقت المقرر، وأبدت الملكة خلال تناول الشاي ارتياحها لهذا الثنائي الذي يشيع الارتياح في النفس مَظهراً وحديثاً ولغة انكليزية راقية وفهماً موضوعياً للأمور وعدم تشنج وتشدد في المعالجة. وهذا أيضاً كان الانطباع الذي خرج به معظم الذين اجتمع إليهم الرئيس بشار خلال الأيام الثلاثة للزيارة التي سجل فيها مواقف مبدئية من بينها قوله في موضوع الحرب الاميركية ـ البريطانية المفترَض حدوثها على العراق «لا أحد يبحث عن الحرب مهما كان السبب، فوحده المريض النفسي يبحث عنها»، وقوله أيضاً «إن الولايات المتحدة ربما تُحقق انتصاراً عسكرياً سريعاً في الحرب على العراق ولكنها ستجاهد كي تتم لها السيطرة على البلاد، كما أنها على المدى الطويل ستعاني كثيراً»، وقوله أيضاً «ان الغرب مخطئ بتصويره الرئيس صدام حسين على أنه تهديد للعالم العربي، وأن الأولويات التي وضعتها الإدارة الاميركية غير مقنعة، ولا تتصل في واقع الأمر بأسلحة الدمار الشامل وصدام حسين»، وقوله أيضاً وأيضاً «إن سورية أرادت بتصويتها على القرار 1441 إبعاد الحرب الى أقصى مدى»، وقوله «إن عواقب العمل العسكري ستكون مروعة وإن الفجوة ستتسع بين العالم العربي والغرب وسيعود العرب عقوداً الى الوراء». وهذا ليس كل الذي قاله لأنه تحدث عن مشروعية المقاومة في لبنان موضحاً، أن للفصائل الفلسطينية في دمشق مكاتب إعلامية. وما لم يقله في لندن قاله في أعقاب لقاء لبضع ساعات في باريس مع الرئيس جاك شيراك صديق سورية ابناً عن أب. وكان لافتاً بالذات قوله: «إن الغرب يعتمد سياسة النعامة في المنطقة وإن سورية ترفض ضرب العراق لأي سبب، وإن الأميركان يعدون بأن تكون حربهم نظيفة، لكنني أعتقد عكس ذلك وأرى أن قذارة الحرب ستصيب الجميع، وإن الحرب على العراق هدفها النفط»... وقوله أيضاً حول الوضع في اسرائيل «ليس في اسرائيل اليوم يمين ويسار، بل هناك يمين وآخر على يمينه، وذاك أيضاً يقف الى اليمين منه آخر أكثر يمينية»... وكان الرئيس بشار جريئاً ومن دون أن يستفزه سؤال أحد الصحافيين عما إذا كان غير خائف من أن تكون سورية هي الدولة المستهدَفة بعد العراق لأنها تدعم «حزب الله» في لبنان وتفتح مكاتب لحركة «حماس» وحركة «الجهاد الإسلامي»، وكان جوابه عن السؤال على النحو الآتي»: «نحن حذرون، وخوفنا على المنطقة بشكل عام وليس على نظامنا، ذلك أن سورية بلد قوي بشعبه. ثم إن أي تغيير لأي نظام في العالم اذا أتى على يد الاميركان فإن من يدعم الأميركان سيكون مكروهاً لا محالة من بلده. واميركا كما نرى هي اكثر بلد مكروه في العالم اليوم. وهذا ما نلاحظه داخل المعارضة العراقية حيث نرى أناساً على خلاف مع النظام لكنهم لا يريدون تغييره على الطريقة الاميركية، إننا لسنا قلقين من هذا الأمر وإنما قلقنا من اسرائيل».

نصل الى القول إن ما أظهره الرئيس بشار الأسد خلال فترة قصيرة نسبياً تلت تسلُّمه الحكم مضطراً وليس مختاراً، يترك انطباعاً بأن المكان الخالي لدور قيادي على المستوى العربي يمكن أن يملأه الرئيس بشار الأسد، وهو في الأصل ما كان يأمل والده الرئيس (الراحل) حافظ الاسد أن يحققه بعد انشغال العراق في الحرب مع إيران، لولا أن المرض كان أقوى. وما سعى إليه الرئيس حافظ الأسد سبق أن سعى إليه الرئيس صدام حسين الذي اعتبر أن لواء الزعامة معقود له بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، ومن اجل ذلك استعجل من خلال القمة العربية الاستثنائية في بغداد إنزال عقوبات إسقاط العضوية والعزل بمصر، وكانت تلك من الخطوات التي انعكست سلباً على مجمل العلاقات العربية من دون أن تحقق جدوى في اتجاه عودة الرئيس أنور السادات عن قراره عقد معاهدات سلام مع اسرائيل تولت إدارة الرئيس جيمي كارتر رعايتها وبلغت ذروتها في معاهدة كامب ديفيد عندما حدثت المصافحة التاريخية بعد التوقيع الصاعق على المعاهدة بين الرئيس السادات ورئيس الحكومة الاسرائيلية مناحيم بيغن.

ومن مقومات الدور القيادي الذي يمكن أن يمارسه الرئيس بشار هو أنه في سن فتية، وأنه ليبرالي في بعض جوانب توجهاته، وأنه صاحب نهج يرى الإسراع في التحديث ومواكبة العصر، وأنه لم يتسلم الحكم بفعل حركة انقلابية وإنما بفعل شرعيتين، دستورية وحزبية، وأنه صاحب سمعة طيبة، وأنه مطلع على ثقافة الغرب ومتأثر نسبياً ببعض خصوصيات تلك الثقافة. وبموازاة هذا كله أنه صاحب الورقة الموروثة وهي أنه لا حرب من دون سورية ولا سلام في المنطقة من دونها، فضلاً عن الورقة اللبنانية التي ما زالت على قوتها في عهده بمثل ما كانت عليه في عهد والده مع اختلاف في أسلوب التعامل.

ومن يملك مثل هذه المقومات يتزايد الخطر عليه. لكن طب العيون يجعل المتخصص فيه مثل الدكتور بشار الأسد يعالج الأمور بالكثير من التأني. والذي يتأنى ينال ما يتمنى.