أم القصائد

TT

قصيدة شاعر البلاط الملكي البريطاني التي ملأت الدنيا وشغلت الناس صباح الخميس الماضي قوتها في ظرفها وفي موقفها ومغزاها، وكل هذه المترادفات محاولة احتيالية كي لا اقول انها قصيدة «مباشرة صارخة» وأقل من عادية، ولو كتبها شاعر من ربعنا لقلنا له هذه خطبة سياسية لا علاقة لها بالشعر، فالجرائد مليئة يوميا بهذا الكلام التحليلي المباشر وكلها تقول ان بوش عينه على الانتخابات والنفط وحل الازمة الاقتصادية والانتقام لأبيه الذي حاول العراقيون اغتياله في الكويت.

و«اندرو موشن» يعرف قبل غيره ان قصيدته ليست «أم القصائد» و«الجارديان» التي نشرتها على ثمانية أعمدة في رأس الصفحة الأولى عندها محرر أدبي ممتاز يعرف الشعر الرديء من الجيد، وكان سيحيل القصيدة الى بريد القراء لاختيار مقتطفات منها لو لم يكن كاتبها شاعر البلاط الملكي ولو لم تكن تخدم هدفا سياسيا تجند له الصحيفة صفحاتها وكتابها منذ عدة اشهر.

نحن امام لعبة مركبة اذن، وما دمنا جميعا نعرف انها قصيدة عادية جدا ونحتفي بها ـ كل لاغراضه ـ فنحن بالضرورة مساهمون في اللعب وهنا تبدأ شعرية القصيدة بالتكشف كما يظهر الهدف الاساسي لشاعرها الذي صرح اكثر من مرة بانه يريد للشعر ان يصبح اكثر احتكاكا بحياة الناس العاديين لا ان يظل حبيس المناسبات والقصور.

ولو جاء هذا الرأي من شاعر يساري من مؤيدي خط «الجارديان» لكان فهمه اسهل اما ان يجيء من شاعر البلاط الملكي ففي المسألة ما فيها خصوصا حين نعرف ان دور هذا الشاعر ينحصر في الكتابة عن المناسبات الملكية كعيد جلوس الملكة وعيد ميلادها وميلاد اولادها واحفادها وما الى ذلك من مناسبات مضجرة.

وعمليا لا قيمة أدبية لهذا المنصب فقد كان على الدوام دورا شرفيا لا يدر مالا وكان اصحابه حين انشئ في القرون الوسطى يتسلمون مرتباتهم على شكل دجاج وشعير وزيت تماما كبشار بن برد في القرن الثاني الهجري، ورغم ذلك ظل المنصب يحتفظ ببريقه لانهم كانوا اذكياء في اختيار من يشغله وكثيرا ما اختاروا له ألمع شعرائهم، فقبل «اندرو موشن» كان المنصب لتيد هيوز، أحد اكبر شعراء الانجليزية بعد اليوت.

لقد اصبحت قصيدة «اندرو موشن» المؤلفة من اربعة اشطر وثلاثين كلمة «أم القصائد» لانها لمست وتراً جماهيريا ودخلت بسلاسة مطلقة الى حوارات تجري يوميا في كل بيت، فالرأي العام البريطاني والغربي عموما منقسم حول الحرب ضد العراق ومعظمه لا يؤيدها لكنه خائف ايضا، فكل يوم يكتشفون خلية تصنع السموم بين ظهرانيهم او تعد لتفجيرات بين المدنيين او لتعطيل المواصلات وكلها عمليات تمس حياتهم اليومية في الصميم.

ومع كل ذلك الرعب المخيم في كل بيت لم يحسم الناس موقفهم ولم يؤيدوا الحرب علنا وشكرا لكوريا الشمالية التي قدمت لهم المثال الساطع على تناقض مواقف قياداتهم السياسية التي ترى القشة في عين العراق، ولا ترى الخشبة والسفينة والقنابل الذرية في اسرائيل وكوريا.

ان قصيدة اندرو موشن مثل الصاعق الصغير الذي تضعه في برميل بارود، فيفجره بالضرورة لانه متفجر اصلا وينتظر منذ زمن صاعقا صغيرا او عود ثقاب ليواصل اشتعاله، وقد ادت القصيدة هذا الدور، ولم تجدد الحوار حول الحرب ضد العراق بل حول دور الشعر ايضا، فلو سألتم شاعرا عربيا كبيرا من اولئك الذين لا يظهرون الا حين تهدأ الدنيا ليقفوا مع الرابح والمنتصر لقال لكم: شعري غير مباشر وانا لا ادخل في تفاصيل العادي واليومي.

وعندها كنتم ستهزون رؤوسكم اعجابا بهذا النخبوي العربي ان كنتم مثله تخفون رؤوسكم بالرمال الى ان تنتهي الازمة، اما ان كنتم مثل شاعر البلاط الملكي تعتقدون ان للشعر دورا في حياة الناس وازماتهم فسوف تضحكون من كل اولئك الشعراء الجبناء، وتفضلون قراءة قصيدة عادية مباشرة على ذلك السكوت المريب، فالسكوت ـ وخصوصا في الازمات الكبرى ـ ليس دوماً من ذهب.