مؤرخ جديد لحرب لبنان

TT

اكرر هنا باستمرار، كمن يدفع عن نفسه تهمة، انني احاول قدر الامكان عدم الكتابة في الشأن اللبناني. وما لا يعرفه جنابكم انني اقوم احياناً كثيرة بارسال مقال «لبناني» الى رئاسة التحرير، ثم اعود بعد قليل فأطلب الغاءه وليس تأجيله. لكن ثمة استثناءات. واليوم اطلعت كتاباً حديث الصدور عنوانه «مار نصر الله بطرس صفير» لمؤلفه انطوان سعد وناشره دار «جبلنا». وللأسف لا اعرف المؤلف ولا الناشر. كما انني لا اعرف شخصياً البطريرك صفير الا من لقاء عابر في الكويت عام .1988 اوردت هذه الايضاحات لاقول انني لا اعرف بالتالي، ان كان الكتاب سيرة رسمية او شبه رسمية للرجل. الا ان ما كتب فيه على شكل مذكرات او يوميات، يشكل في مجموعه تاريخاً للصراع الهائل الذي دار ابان الحرب اللبنانية، بين بطريرك الموارنة وبين القوى المسيحية على الساحة. ويشكو البطريرك شكوى مرة غير مكبوتة مما تعرض له على ايدي مؤيدي العماد ميشال عون و«القوات اللبنانية». ويروي تفاصيل حادثة تعرض لها العام 1989 على ايدي مناصري عون الذين هاجموه في مقره ومزقوا كرسيه والصقوا عليه صورة العماد عون ثم طلبوا منه بالحاح ان يقبّلها، هاتفين: «بوس الصورة»، وقد تجالد ولم يفعل. غير انهم ارغموا مساعِدَين له على تقبيلها، ففعلا وهما يستغفران بصوت خافت.

ويقول البطريرك صفير انه في ذلك المساء أوى الى فراشه حزيناً وكتب في مفكرته «ما اظلم حكم العسكر وما امرّ الاستبداد». ويقول انه كان يحارب تقسيم لبنان، تمشياً مع موقف الفاتيكان المصرّ على استمرار التعايش الاسلامي ـ المسيحي. اما بعض معاوني العماد عون فلم يكن يضيرهم الانزلاق الى «القبرصة»، كما قال له موفد خاص لعون هو الجنرال ابو جمرة، احد وزرائه آنذاك في الحكومة الموقتة. يذكر صفير ان السفير البريطاني ابلغه ان الاتحاد الاوروبي خائف على مبدأ التعايش الاسلامي ـ المسيحي حول العالم بسبب ما يجري في لبنان. وعندما سأله صفير ان كان من الممكن حل مشكلة عون (في قصر بعبدا) من دون اللجوء الى القوة، اجاب السفير «الان رامسي» انه «لا بديل عن اتفاق الطائف. ان نصف مطالب الجنرال عون شخصية والباقي مطالب وطنية. لذلك يبدو ان الحل معه مستعص».

يرى البطريرك صفير في النزاع العسكري الذي خاضه العماد عون و«القوات اللبنانية» عام 1990 «قتالا بين متنكرين للمفاهيم الانسانية» ولذا بقي هو خارجه، كما بقي خارج الصراع السياسي بين حكومتي الرئيس سليم الحص والعماد عون، ومضى في تأييد «اتفاق الطائف» الذي عارضه عون بضراوة. وقد حاول عبثاً وضع حد للقتال بين «القوات» وعون مناشداً «وقف الانتحار الجماعي. ارحموا نفوسكم والناس واتقوا الله في وطنكم». وفي الاسبوع الاول من القتال حاول يائساً الاتصال بعون او سمير جعجع. وبعد 7 ايام نجح في مكالمة عون فقال له «الشعب يتعذب كثيراً يا جنرال»، فاجاب: «الشعب مسكين». وعندما اتصل بجعجع رجاه «معاملة الاسرى كأخوة».

يقول البطريرك صفير انه كتب في يومياته وصفاً لجولة قام بها على اثر المعارك بين عون و«القوات»، جاء فيها التالي: «وزرنا العجزة، وقد وضعوا في الطبقة الواقعة تحت الارض كأنهم في مقبرة ولا نور ولا كهرباء ولا هواء. وقد بقي منهم في المأوى نحو 50 شخصاً. ثم سرنا على الاقدام في الشارع ورأينا بنايات مؤلفة من طبقات عدة لم يعد لها ابواب او شبابيك وبعضها اضحى دون سقف. والتفّ بعض الناس وجاءوا للسلام علينا وفي عيونهم بريق امل، وسمعنا بعضهم يقول، انتهينا من الزعران، وهو يعني افراد القوات».