أصدقاء الولايات المتحدة ينصحون «بوش» بالاستماع إلى صوت العالم

TT

منذ وصول الرئيس الأميريكي بوش الثاني إلى البيت الأبيض وطوال سنتين، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول توالت أخطاؤه في تدبير الشأن الدولي وتراكمت بما أصبحت معه لا تتحمل المزيد.

وخلال الحملة الانتخابية لاختيار خلف للرئيس الديمقراطي «بيل كلينتون» تردد على لسان خصوم «بوش» أن هذا الأخير ناقص الخبرة، وغير قادر على تدبير الشأن العام لافتقاده التجربة اللازمة، حيث لم يمارس قبل انتخابه مهمات سياسة يساعده تنوع تجاربها على امتلاك ناصية التسيير السياسي والإداري، وتُمكِّنه من القدرة على اقتحام غمار الأزمات السياسية العالمية وحل مشاكلها بتوفيق ونجاح.

وبعبارة جامعة قيل عن الرئيس بوش آنذاك إنه لا تتوفر له الشروط الأساسية التي تؤهله لاقتعاد عرش القطبية الأميريكية وقيادة العالم نحو مصير أفضل. وهي المهمة التي يضطلع بها عادة رؤساء الولايات المتحدة خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد خروج الولايات المتحدة من عزلتها الدولية. في الاضطلاع بهذه المهمة العظمى لا بتفاوت الرؤساء إلا بمقدار تفاوت حجم مسؤولياتهم ومؤهلاتهم الذاتية، وما يجيئون به إلى البيت الأبيض من حمولات تجارب معترف لها بالنجاح.

وعندما فاز المرشح الجمهوري «بوش» بالرئاسة بمقتضى قرار المحكمة العليا في فلوريدا وليس بأصوات الناخبين سطا على هذا الاستثناء خصومه واستغلوه للمس بهيبته، والطعن في صدقية انتخابه. وربما خلقوا عنده مركبا جعله يعمل لجبر كسر النقص المنسوب إليه بالمسارعة إلى اتخاذ قرارات غير متوازنة نتجت عن أحكام مطلقة أُرسِلت على عواهنها. ولم يسبقها تفكير رصين في عواقبها، ولا دراسة تقنية لشروط تنفيذها، بالرغم من أن الرئيس أحاط نفسه بفريق عمل ذي تجربة. لكن هذا الفريق كان مشلولا بتوزعه على اتجاهات متعارضة، مما يصبح معه دور الحَكَم (الذي هو دور الرئيس) صعبا ومعقدا خاصة إذا كان هو نفسه فاقد التجربة وغير قادر على الحسم.

تمثل الخطأ الأول الذي ارتكبه البيت الأبيض في إطلاق الرئيس حكما مطلقا على الإرهاب بأنه إسلامي. وعلى عملية عدوان 11 سبتمبر على الولايات المتحدة بأنها حرب إسلامية على أميريكا، ورتب على هذا الحكم غير الموزون تسرعه شن حرب عامة على الإسلام حيث كان، بمن فيه المواطن المسلم الأميريكي الذي أصبح مضطهدا في بلده، مُهانا ملاحَقا رغم القوانين العادلة التي تحمي المواطن الأميريكي كيفما كانت أصوله عرقية أو لونية أو دينية، والتي تؤسس لوحدة المواطنة الأميريكية.

وكان الخطأ الثاني هو اعتماد مبدأ إقامة العلاقات الدولية على أن «من يحارب الإرهاب هو معنا وصديقنا» و«من لا يحاربه معنا هو ضدنا وعدونا»: وهو معيار ألغى جميع المعايير الأخلاقية السابقة التي كانت تعتمد على تحالف الولايات المتحدة مع من يناصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات المدنية الإنسانية، ومن يُعلي شأن القانون الدولي، ويخضع للشرعية الدولية، وعلى اعتبار أن عدو الولايات المتحدة هو من ينكر هذه القيم ويناهضها.

وكان الخطأ الثالث هو رفع البيت الأبيض هذا المعيار كشعار دون أن يسمح للمجتمع الدولي بتحديد مفهوم الإرهاب، ودون أن تُعرَف هُوية وطبيعة العدو الذي يراد شن الحرب عليه. وفي غيبة تحديد مفهوم الإرهاب أدخلت الولايات المتحدة حرب الإرهاب في حرب الأشباح التي لم يتحدث عنها التاريخ قط، بسبب أنها لم توجد أبدا.

وكان الخطأ الرابع هو إعلان الرئيس عن أنه سينتصر في الحرب بحصوله المؤكد على رأس بلادن حيا أو ميتا. ولم يتحقق له هذا الانتصار، إذ يبدو أن بلادن ما يزال حيا يرزق، وما فتِئ يوجه خطبه وإنذاراته الجهنمية إلى أميريكا من أمكنة مجهولة، مثلما تبين أن حرب طالبان لم تنته وما تزال تسيطر على أجزاء من أفغانستان، وأن حكومة قرضاي محصورة في كابول تحت حماية الجيش الأميريكي وعاجزة عن حكم أفغانستان ذات القبائل الفسيفسائية التي يستحيل إخضاعها.

وكان الخطأ الخامس هو مراهنة الرئيس «بوش» على حرب عالمية عاصفة يُستأصَل فيها دابر الإرهاب بلا خسائر ولا أموات مثلما حصل في كوسوفو ويوغوسلافيا. لكن الخسارات الأميريكية في الأرواح كانت مفاجِئة ومعاكِسة للتخطيط الأميريكي المتسرع.

أما الخطأ السادس الفظيع فهو تورط الرئيس «بوش» في نزاعات جانبية وحروب دامية استغلتها النظم المستعمِرة الديكتاتورية التي تمارس إرهاب الدولة التي تخوضها ضد الشعوب المضطهدة في غيبة تحديد موضوعي لمفهوم الإرهاب لتحويلها إلى حروب مكافحة الإرهاب. وانصاع الرئيس بوش إلى هذا التضليل الخادع فشجع هؤلاء المستعمِرين الجدد في فلسطين والشيشان بما جعل بلاده طرفا متورطا في هذه الحروب، وبالتالي هدفا مباشرا لكراهية الشعوب التي تعاني من الخلط الواقع في مفهوم الإرهاب وفي طليعتها الشعوب العربية والإسلامية التي تشكو من وقوف الولايات المتحدة بجانب إسرائيل في حربها على الشعب الفلسطيني «الإرهابي»، وتتحيز إلى روسيا في حربها ضد شعب الشيشان «الإرهابي». ولحسن الحظ لم يتسرع الرئيس الأميريكي في ربط حربه التي يُعِدّها ضد العراق بالإرهاب، رغم ما مارسته إسرائيل عليه ولا تزال من ضغوط لحمله على إدماج الحرب ضد العراق في الحرب الشاملة المعلنة على تنظيم القاعدة عبر العالم.

والخطأ السادس اعتماد الولايات المتحدة في زجر الإرهابيين ومعاقبتهم تدابيرَ استثنائيةً لا قانونية مخالفة للدستور الأميريكي لم تطبقها على معتقلي «غوانتنامو» فحسب، بل على كل من يُشتبَه في أن لهم علاقة بالإرهاب، مدشِّنة بذلك مبدأ لا قانونيا يقضي أن الأصل في المتهَم هو ارتكاب الجريمة ولو بدون دليل بدلا من المبدأ القانوني العادل القائل: إن الأصل هو البراءة، وكل متهم بريء إلى أن تثبت جريمته لدى القضاء.

وقد انعكست تداعيات هذه الأخطاء التي ليست حصرية على علاقات الولايات المتحدة مع العالم، حيث تعاملت حتى مع حلفائها التقليديين من منطلق وجوب تسليم العالم لها بمسؤولية قيادة العالم، وتبعية سائر نظمه لها، وتخويله إياها حق التصرف الانفرادي في مصير العالم بدون حسيب ولا رقيب، ودون حوار سابق ينتهي إلى توافق دولي.

وبذلك دخلت الولايات المتحدة في حرب مع العالم ابتدأت في بعض الجهات باردة ثم أصبحت شبه ساخنة، أقصد بذلك خاصة نزاعاتها مع حلفائها الأوروبيين في الاتحاد الأوروبي، وحلفائها في العالم العربي والإسلامي. وهؤلاء بدورهم اهتبلوا مساعي تعبئتها لإقامة تحالف عالمي ضد العراق فقابلوها، بالرفض البارز أو المضمَر، أو بالتحفظ المعلَن، أو بالتلكؤ في الاستجابة لمطالبها. وكلهم نجحوا في الضغط عليها لتقبل في النهاية التحاكم إلى مجلس الأمن. ولم يسع الرئيس «بوش» أمام موقف العالم الرافض لحرب العراق إلا أن يرضخ لاحترام الشرعية الدولية بما جعل شن الحرب على العراق مرهونا بإرادتها وإذنها. وهو ما لم تخطط له الإدارة الجمهورية التي كانت تحسُب معادلة حرب العراق بحساباتها الانفرادية المخطئة.

ولقد تميزت بداية سنة 2003، بظهور معارضة منظمة لمخططات الرئيس «بوش» حول الحروب الوقائية والهجمات الاستباقية سواء في داخل الولايات المتحدة أو خارجها، مما يعني أن معارضة السياسة الأميريكية الجديدة تجاوزت العمل في الكواليس إلى العمل تحت النور وأشعة الأضواء وبالكثير من الوضوح والشفافية. وهو ما يشكل تحديا للولايات المتحدة لم تحسب له أيضا أي حساب.

من داخل الولايات المتحدة أبدى الرئيس الأسبق «بيل كلينتون» معارضته لسياسة «بوش»، وقال: «إنه يقبل أن تقود بلاده العالم لكنه يرفض أن تسوده أو تهيمن عليه لأن هذا التوجه غير ممكن وغير مقبول من العالم». وذهب رئيس أميريكي أسبق بعيدا في معارضة سياسة «بوش» هو «جيمي كارتر» عندما قال: «إن على المجتمع الدولي أن يقرر تجريد الولايات المتحدة من أسلحة الدمار الشامل المحظورة تجنبا لازدواجية المعايير ولتهيئ الظروف الملائمة لقيام سلام عالمي حقيقي شامل».

وابتدأ المرشح الديمقراطي عضو الكونغريس «ريتشارد جيبهارت» حملته الانتخابية التي ستجري سنة 2004 ويتنافس هو فيها مع الرئيس بوش، فشن حملة على سياسة هذا الأخير وقال عنها: «إنها كلها خطأ، وأنه سيخوض المعركة الانتخابية تحت شعار: «من أجل إصلاح أخطاء بوش».

والأشد من ذلك الموقف المتميز الذي اتخذه «بلير» الوزير الأول البريطاني من سياسة حليفه الأميريكي الأكبر، حيث نصح الولايات المتحدة بانتهاج سياسة جديدة تراجع بها الأخطاء التي ترتكبها وحصرها في ضرورة أن يستمع الرئيس «بوش» إلى العالم ليطلع ويستفيد، ويدخل تعديلات جذرية على سياسته لتصبح متلائمة مع توجهات العالم (المعارِضة). وعدَّد الأمثلة عن ذلك، ومنها عدم التسرع إلى ضرب العراق، ووجوب معالجة الصراع الإسرائيلي العربي بما يضمن للشعوب العربية عامة وشعب فلسطين خاصة حقوقها المشروعة، ووجوب انخراط الولايات المتحدة في منظومة «بروطوكول كيوطو» حول مشاكل البيئة ومشكلة الاحتباس الحراري الذي تعاني منه الأرض، والتزامها بتعهداتها لمحاربة الفقر العالمي، ووجوب دفع مساهمتها المالية التي وعدت بها في برنامج تحقيق تنمية العالم المتخلف. وأضاف أن على الولايات المتحدة أن تنتهج من السياسات ما يُحبِّبها إلى شعوب العالم لا ما يزيدها كراهية وبغضا، وخاصة شعور الاستياء تجاهها الذي ينتشر في العالم العربي والإسلامي.

فهل يستمع الرئيس «بوش» إلى هذه الانتقادات، ويُصيخ بسمعه إلى هذه المعارضات، ويعمل بالنصائح الموجهة إليه من أصدقاء بلاده وحلفائها؟ إن ذلك وحده هو الذي قد يمكِّنه من الظفر بولاية أربع سنوات جديدة. وهذا الهدف عنده أولوية الأولويات بكل تأكيد. فليخطط له بعقلانية حتى لا يندم على ضياعه.