جرائم في حق الإنسانية

TT

الأوطان مثل الاحباب، لا يتألم المرء لفراقهم إلا حين تغيب صورتهم من أمام ناظريه، والعديد من الناس لا يعرفون قيمة أوطانهم إلا حين يتذوقون مرارة الغربة، لحظتها يتمنى المرء منهم لو يضم في كفه حفنة من تراب ارضه، وان يستنشق نسيم جوه، كون الوطن كالتربة للشجرة، إذا اقتلعت من جذورها ليتم زرعها في تربة مغايرة تذبل وتموت، إلا اذا غيرت جلدها لتتأقلم جذورها مع طين الارض الجديد!! وقرار الغربة لم يعد ترفا، بل اضحى أمرا مفروضا لا تراجع عنه عند العديد من افراد الأمة الاسلامية، نتيجة الحروب الواقعة والقلاقل السياسية والتدهور الاقتصادي، وهيمنة الدول الكبرى على مصائر الكثير من دول العالم الثالث!!

هذه الخواطر تراودني كلما قادتني قدماي احيانا الى شارع ادجوار رود أو شارع العرب كما يطلقون عليه، حيث ان أول شيء يلاحظه المرء، عدد المتسولين الافغان، الذين يلاحقون المارة من أجل الحصول على قطعة من النقود، مع تورط بعضهم في سرقة السياح العرب!! وكثيرا ما تعترضني امرأة أو صبي أو طفلة طالبين مني بلهجة عربية ركيكة ان انفحهم شيئا.

هذا المشهد المأساوي يعكس الحال المزري الذي آل اليه هذا الشعب المغلوب على أمره، واسترجع لحظتها الاقوال التي قرأتها وسمعتها عن دور الشعوب في نفض اغبرة الظلم عن ثوبها المعفر، وانها قادرة على طمس واقعها الاليم بالثورات الشعبية، وقوة الارادة، وصلابة الموقف، مما يدفعني الى فرض سؤال اكثر تحديدا.. هل تقتصر هذه الاقوال على دول العالم المتحضرة نتيجة لمساحة الحريات الواسعة الممنوحة لافرادها، أم انها تشمل كذلك الامة العربية والاسلامية التي تسلب حريتها كل يوم، حتى تعودت على المشي منحنية، تلبي الاوامر دون معارضة!! فهل بعد هذا النمط من الحياة الانعزالية، نأمل خيراً في أحد من أفراد مجتمعها؟!

لقد لفت انتباهي حديث الباحث «داي وليامز»، المتخصص في آثار الاسلحة على البيئة والحياة، عن مخاطر الاسلحة التي تحتوي على اليورانيوم المشع، ونتائجها السلبية على صحة الانسان، واعجبني قوله بأنه يحتج على قرار ضد العراق إن تم ذلك، متابعا بأن الواجب على كل شعوب العالم الخروج للشوارع ورفع اصواتهم، والمطالبة بوقف هذه الحرب اللعينة من أجل حماية الانسانية من الدمار، معلقا بأنها حرب لابادة الشعوب!! هل هذا يعني ان السياسة نقيض للأخلاق؟! هل تحقيق المصالح الخاصة معناه الدهس على آدمية الانسان؟! وهل يجب على الشعوب ان تتورط وحدها في اللعبة الدائرة بين الاقوياء والضعفاء؟! أم ان التاريخ يؤكد على وجوب وجود قاتل ومقتول، وسجين وسجان؟!

إن الكل يعلم ان اليورانيوم المشع تم استخدامه في حرب البلقان وحرب الخليج الاولى ومؤخرا في افغانستان، مما أدى الى اصابة اكثر من ألف جندي امريكي بما يعرف بمرض الخليج، بجانب السلبيات المفجعة الحاصلة داخل هذه البلدان، كحدوث تشوهات خلقية للمواليد الجدد، وانتشار الامراض المستعصية مثل لوكيميا الدم ومرض البيولا. لكن ما ادهشني في حديث داي وليامز، نصيحته للناس الذين يعيشون في هذه المناطق الملوثة اشعاعياً، بالنزوح الى مناطق آمنة، ولا أعرف كيف يمكن ان يتخذ المرء بسهولة قرار الهجرة عن وطنه، واذا اختار قرار الاغتراب، هل سيجد بسهولة حدود الدول الاخرى مفتوحة امامه، خاصة في هذا العصر العصيب الذي اصبح الجار يتوجس من أخيه!! كما ان الاوطان لم تقم لتهجر وإنما لكي يعيش عليها اصحابها في أمان، ومن غير المعقول ان تتحمل الشعوب وزر جرائم لم تكن لها يد في صنعها!! وان تبتلع صاغرة سموم غيرها دون ان ترفع صوتها للشكوى أو للتذمر!!

ما يثير الريبة ان منظمة الصحة العالمية لم تحاول تسليط الضوء على خطورة اسلحة اليورانيوم المنضب على البيئة والناس، أو تطالب بحظر استخدامها، في الوقت الذي تصر امريكا على وجود اسلحة دمار شامل داخل العراق، معتبرة ان احتمال وجودها ذريعة مباشرة لاعلان الحرب عليها، وتسلّط سيفها على رقبة العالم العربي والاسلامي من اقصاه الى ادناه، حتى اصبحت البلدان العربية والاسلامية تقف تحت مقصلة الادارة الامريكية تحرك مقبضها لكل من تسول له نفسه تجاوز الخطوط المرسومة له!! حتى الامم المتحدة هي الأخرى تهاب امريكا بدليل سحبها التقرير الذي قُدّم لها عن السلبيات الواقعة داخل افغانستان نتيجة تعرضها للصواريخ المعبأة رؤوسها بالاسلحة المشعة.

واذا كان الكثير من الحكومات العربية غدا يقف امام امريكا موقف المغلوب على أمره، فالدور على الافراد داخل المجتمعات، من خلال تكوين منظمات ومؤسسات في الخارج بدعم عربي لفضح ممارسات السياسة الامريكية أمام العالم وأمام الشعب الامريكي، الذي من المؤكد انه تفصله مسافات شاسعة عن حكومته، من خلال تقديم حقائق تؤكد تورط حكومتهم في تلوث البيئة وابادة البشر، بسبب استخدام هذه الاسلحة المشعة، والمطالبة بمحاكمة المتورطين فعليا كمجرمي حرب في محكمة لاهاي، حيث ان القضية لم تعد محصورة في فتح حوار مع الغرب والسلام، فالواضح ان الاقوال اذا لم تدعم بالافعال، سينتهي مصيرها الى الانحسار مع السيول العارمة التي تجتاح الامة العربية والاسلامية على الدوام، وكم هو مؤسف ان تسعى المنظمات والمؤسسات الدولية الى الكشف عن الآثار المدمرة للحروب، من أجل تقديمها للمجتمع الدولي، في الوقت الذي تقوم الدول العربية بغض الطرف تارة من قلة الحيلة، وتارة أخرى من منطلق انه لا يدخل في صميم اهتماماتها، وكأن ما يجري لا يمت بصلة قرابة لهم من قريب أو بعيد!! في الوقت الذي تحرص المنظمات اليهودية في امريكا، على عقد دورات للهنود الهندوس المهاجرين حديثا للولايات المتحدة، لتقويتهم سياسيا ليتمكنوا من مواجهة عدوهم المشترك المتمثل في الاسلام والمسلمين.

النار تشب في كل مكان، وهي لن تبقي ولن تذر، ولن تفرق بين غال ورخيص!! ليت الامتين العربية والاسلامية تدركان بأن التمسك بالعزة والكرامة، والحفاظ على السيادة، لا يأتيان من فراغ، بل بالوقوف في وجه الطغيان ببسالة، حتى ولو كان ماردا جبارا، فلا بد ان تتغلب الشجاعة ذات يوم، لتزين الافراح بعدها حدائق مستقبلها!!