حرب يجب أن نخوضها

TT

ها نحن نبدأ سنةً جديدة في الألف الثالث الجديد، والعالم في قبضة العنف والعنف المضاد. فهناك أزمة ثقة بين الغرب المسيحي والشرق المسلم. وهناك الولايات المتحدة الأميركية تهيئ لحربٍ في العراق، وكوريا الشمالية تهدد ببناء قوةٍ نووية. وهناك بالطبع إسرائيل، كعادتها تفتك بالفلسطينيين وتسحق أحلامهم كل يوم. إنها القصة ذاتها: الإنسان ضد الإنسان، القوي ضد الضعيف، بدل أن تكون القصة، الإنسان ضد أعدائه الحقيقيين: المرض، والجهل، والفقر، والمعاناة. أليس من المعيب أن يبقى الإنسان، بعد كل هذه الآلاف من السنين من التجربة الإنسانية، على هذا المستوى من اللاإنسانية واللاحضارة؟!، أوليس من المعيب أن ينفق الإنسان أكثر من سبعين بالمائة من دخله في سبيل تدمير أخيه الإنسان، بدل أن تنفق هذه الأموال في الحرب الحقيقية؟! بل الحرب الوحيدة التي تليق بالإنسان، ألا وهي الحرب ضد المرض؟!

إلا أنه، وبالرغم من ضآلة المال الذي ينفق على الأبحاث العلمية، فقد حققت هذه الأبحاث حديثاً، إنجازاتٍ ضخمة في معالجة الأمراض السرطانية، حيث أصبح من الممكن شفاء %40 من جميع حالات السرطان. وأعتقد وبكل ثقة، بأن التقدم الذي سيحصل في الخمس سنوات القادمة، سيكون مذهلاً، وذلك لأننا قد تمكّنا في السنوات الخمس الماضية من فهمٍ عميقٍ للتصرف البيولوجي للخلية السرطانية، وكيف تختلف هذه الخلية عن الخلية السليمة، وكذلك المراحل التي تمر بها الخلية السليمة قبل أن تصبح خليةً سرطانيةً. من فهمنا هذا، تمكن الطب الحديث من تطوير أدويةٍ وعلاجاتٍ جديدة تستهدف هذه الصفات للخلية السرطانية فتقتلها، دون أن تمسّ الخلايا السليمة بأي أذى. هذا المنحى الجديد لعلاج السرطان، يدعى باللغة الإنجليزية Target therapy أي «العلاج المُستهدف» أو «العلاج المركَّز»، إذ أن هذه العلاجات تستهدف صفات بيولوجية معينة في الخلايا السرطانية وتشلها وبالتالي تقتل الخلية السرطانية وحدها، بعكس العلاج الكيمائي التقليدي غير المركّز، الذي لا يميز بين الخلية السليمة والخلية السرطانية. وهناك أمثلة عديدة من العلاج المركّز، من أهمها الدواء الجديد Gleevec. لقد أثبتت الدراسات ان الخلية السرطانية في مرض اللوكيميا المزمنة وغير اللمفاوية Chronic Myelogenous Leukemia، تحتوي على بروتين معين غير موجود في الخلية السليمة يدعى Bcr- Abl، وأن هذا البروتين هو السبب الرئيسي لتكاثر الخلايا ونموها بشكل مَرَضي. فالدواء Gleevec يستهدف هذا البروتين ويمنعه من القيام بوظيفته وبالتالي فهو يشل عمل الخلية ويسيطر على المرض.

هذا الدواء هو أكثر فعالية وأقل ضرراً من العلاج الكيميائي التقليدي لأنه لا يصيب الخلية السليمة بأي أذى. وهناك أدوية من العلاج المركز تستهدف بروتينات مختلفة موجودة في الغلاف الخارجي للخلية السرطانية، وهذه البروتينات هي من الأسباب التي تمكن الخلية من النمو والتكاثر بشكل سرطاني. تدعى هذه البروتينات Epidermal Growth factor receptors، والأمثلة على هذا النوع من الأدوية كثيرة، منها C- 225 وIressa. إن C- 225 لا يزال قيد التجارب والبحث في معالجة سرطان الكولون المتقدم، وقد أثبتت التجارب في السنتين الماضيتين بأن هذا الدواء فعال في %11 من الحالات إذا استعمل لوحده، أما إذا استعمل بالإضافة إلى الدواء الكيميائي الذي يدعى CPT- 11، في نفس الوقت، فقد تزيد فعاليته إلى %22. أما الدواء الثاني والذي يسمى Iressa، فلا يزال أيضاً قيد البحث في معالجة سرطانات عديدة، إلا أنه وبكل تأكيد علاج جيد لسرطان الرئة وسرطان الرأس والرقبة وبعض سرطانات الجهاز الهضمي. وبالرغم من كل ما تعلمناه في السنوات الخمس الماضية، إلا أننا لا نزال نجهل الكثير عن الأسباب التي تجعل من الخلية السليمة، خلية سرطانية، لكننا بكل تأكيد نعرف أن هناك أسباباً عديدة لا سبباً واحداً. لذلك، فنحن بحاجةٍ إلى استعمال أسلحةٍ مختلفة للقضاء على الخلية السرطانية. إن العلاج التقليدي الكيمائي لا يزال الركيزة الأساسية لعلاج معظم الأمراض السرطانية. وبالرغم من التقدم الكبير في مجال العلاج المركز، فنحن على الأرجح سنحتاج في المستقبل القريب إلى استعمال الطريقتين معاً: العلاج المركّز والعلاج التقليدي غير المركّز للحصول على نتائجٍ أفضل. لقد تعلمنا من الماضي بأن القضاء على السرطان كلياً بواسطة سلاحٍ واحد هو أمرٌ صعبٌ جداً.

أما بالنسبة إلى سرطان الثدي، وهو أكثر السرطانات انتشاراً عند النساء، فهناك دواءٌ جديد اسمه Herceptin، وهو يستهدف بروتيناً معيناً، موجوداً في الغلاف الخارجي للخلية السرطانية لدى بعض مرضى سرطان الثدي. يدعى هذا البروتين Her- 2. عندما يكون هذا البروتين موجوداً في الخلية السرطانية، نستعمل الدواء، الـ Herceptin، وهو عبارةٌ عن جسمٍ مضاد يقضي على الخلية السرطانية من نسلٍ معين تحتوي الخلايا فيه على الـ Her- 2. هذا النوع من الأدوية يسمى Monoclonal Antibodies. أما في الليمفومات (سرطان الأنسجة اللمفاوية)، فهناك Monoclonal Antibody اسمه Rituxan، الذي أظهر فعاليةً مميزة في معالجة هذه الأمراض. لذلك ليس لدي أدنى شك في أن الأبحاث العلمية التي تركز على دراسة الخلية السرطانية وصفاتها وأسباب نموها وتكاثرها، وكيفية انتقالها إلى أعضاءٍ أخرى من الجسم كي تنمو وتتكاثر فيها من جديد، هي التي ستقود حتماً في نهاية المطاف إلى القضاء على السرطان.

ولربما يكون أهم إنجاز لِلعلم في السنتين الماضيتين، هو التوصل إلى وضع خريطةٍ دقيقةٍ ومفصلةٍ للجينات عند الإنسان. هذا الإنجاز التاريخي سيكون المدخل إلى عالمٍ جديد، عالمٌ يكون بحدّ ذاته ثورةٌ في العلم والتكنولوجيا. وستنعكس نتائج هذه الثورة ليس فقط على معالجة الأمراض السرطانية، بل على معالجة أمراضٍ أخرى عديدة، وستلقي الضوء على قضايا كبيرة تتعلق بماهية الإنسان ومستقبله، وعلاقة هذا الإنسان بهذا الوجود اللامتناهي للكون. هذا الإنجاز الكبير في دراسة الجينات عند الإنسان سيكون مهماً في تحديد الأمراض وتشخيصها بقدر ما سيكون مهماً للعلاج. ونحن كنا وما زلنا، نشخص المرض من خلال فحص الأنسجة المَرضَية تحت المجهر. أما في المستقبل فسيكون التشخيص بناءً على الخريطة الجينية. وهناك أمراضٌ عديدةٌ اليوم يتم تشخيصها بدقة بواسطة هذه الطريقة. أما بالنسبة للعلاج بواسطة الهندسة الجينية، فنحن في بداية الطريق. إلا أن هناك بعض الأبحاث العلمية التي تشير الى أن المعالجة بواسطة هذه الطريقة الجديدة، سيكون لها دورٌ عظيمٌ في المستقبل. وهناك إحصاءاتٌ حديثة تثبت أن معالجة سرطان البروستاتا بواسطة العلاج الجيني وبالتلازم مع علاج الأشعة تعطي نتائج جيدة. ومن النتائج العلمية المذهلة في هذا الحقل، أن الإنسان، كائنا من كان، أسود أو أبيض، مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، يحمل %99.99 من الجينات نفسها. هذا يعني أن ما يجمعنا في الإنسانية هو %99.99. وأكثر ما يختلف إنسان عن آخر بالنسبة إلى الجينات هو %0.01، هذه الحقيقة أساسيةٌ ومحوريةٌ لفهمنا لماهية الإنسان. وهي أساسية للاتجاه الحضاري الذي يجب أن يسلكه الإنسان في الألف الثالث.

ومن أهم التحديات الحديثة قضية الاستنساخ البشري. وهنا يجب أن نميّز بشكل جازم وواضح بين الاستنساخ العلاجي والاستنساخ الذي يهدف إلى تخليق طفل جديد (الاستنساخ التوالدي). والنوع الثاني لا يزال محرماً، وهكذا يجب أن يبقى، من قبل المؤسسات العلمية والحكومات. أما الاستنساخ العلاجي، فله فوائد جمّة، لأن الهدف منه هو صنع خلايا جذعية Stem cells، يمكن استعمالها في معالجة الأمراض السرطانية وغيرها من الأمراض. من المهم جداً أن نميز بين النوعين، لأن رفضنا للاستنساخ التوالدي يجب أن لا يشمل الاستنساخ العلاجي، ويهدد البحث العلمي في هذا المضمار. ولكنه وبالرغم من دعمنا القوي للبحث العلمي في حقل الاستنساخ العلاجي، نريد أن نصرّ بأن يتم هذا البحث ضمن أطرٍ ومعايير حضاريةٍ وعلميةٍ وأخلاقيةٍ محددة.

وهناك منحى جديد لمعالجة الأمراض السرطانية وهي في مراحلها البريئة Chemo prevention. إذ أنه أصبح من الواضح أن الكثير من السرطانات يمر بمراحلٍ عديدة يكون المرض فيها بريئاً قبل أن ينتقل إلى المراحل التي يصبح فيها خبيثاً. من هذه السرطانات، سرطان الثدي. ففي هذا النوع من السرطان قد تطول المدة الزمنية، التي تمر بها الخلية السليمة حتى تتحول إلى كتلةٍ في الثدي يمكن اكتشافها، إلى عشر سنوات. إلا أنه في هذه المرحلة الزمنية تمر الخلية السليمة بمراحل عديدة بريئة قبل أن تتحول إلى خلية سرطانية قادرةٌ على النمو والتكاثر. فإذا ما تمت معالجة هذا المرض في مراحله الأولى البريئة نتمكن من حماية %50 من هؤلاء النساء من الإصابة بسرطان الثدي. وتتم هذه المعالجة بواسطة هرمونٍ اسمه الـ Tamoxifen.

لقد أثبتت الأبحاث العلمية أن نسبة الإصابة عند النساء المعرضات لسرطان الثدي، بسبب وجود حالاتٍ مماثلة في العائلة أو لأسبابٍ أخرى، تنخفض إلى النصف إذا ما عولجن بواسطة الـ Tamoxifen، مقارنة بالنساء المعرضات للإصابة بالمرض ذاته ولم تتم معالجتهن بالـ Tamoxifen. لذلك ولأول مرة في تاريخ الطب الحديث، يمكننا الوقاية من سرطان الثدي بنسبة كبيرة. من هنا، فالنصيحة لجميع النساء اللواتي هن فوق الستين سنة من العمر، أو لديهن حالات سرطان ثدي في العائلة، أن يستشرن أطباءهن بشأن المعالجة بواسطة الـ Tamoxifen. هذا المنحى الجديد يعني أنه إذا توصلنا إلى تشخيص بداية المرض وهو في حالته البريئة فهناك إمكانية كبيرة لمنع تقدم المرض من المرحلة البريئة إلى المرحلة الخبيثة. من هنا تكمن أهمية الأبحاث العلمية بالنسبة إلى الجينات لأنه سيأتي يوم نتمكن فيه من معرفة الأمراض التي يمكن أن يتعرض لها الإنسان في المستقبل وتشخيص هذه الأمراض باكراً بواسطة دراسة جيناته. هذا سيمكننا من وضع استراتيجيات معينة ودقيقة للوقاية من هذه الأمراض أو لمعالجتها وهي في المراحل الأولى من نشأتها، قبل أن تصبح أمراضاً سرطانية.

أما بالنسبة إلى التلقيح، فهناك مراكزٌ علميةٌ كثيرة ينصبّ اهتمامها على تطوير لقاحات للوقاية من الأمراض السرطانية وغيرها من الأمراض مثل الـ Aids. وقد تم حديثاً التوصل إلى لقاحٍ يشفي من سرطان عنق الرحم عند الأنثى في الحيوان. ونحن نعلم أن سرطان عنق الرحم عند المرأة هو على الأرجح بسبب فيروس Virus، ينتقل بواسطة ممارسة الجنس. وبالتالي فتطوير لقاح ضد هذا الفيروس قد يكون الخطوة الأولى للقضاء كلياً على هذا السرطان. وبالرغم من النتائج المذهلة في الحيوان بالنسبة إلى هذا اللقاح، إلا أننا نحتاج إلى دراسةٍ علميةٍ في الإنسان قبل استعماله روتينياً كلقاح شاف للمرأة.

وماذا عن الطب البديل؟ مما لا شك فيه أن الطب البديل سيتطور وسينمو، ولكنني أود أن أوضح موقفي من هذا التعبير، إذ أنني لا أوافق إطلاقاً على تعبير «الطب البديل»، لأن هذه العبارة تعني أنه طبّ معترف به للاستعمال بديلاً عن الطب العلمي التقليدي، وهذا كلامٌ غير صحيح. وأفضل تعبير برأيي لما يُسمى بالطب البديل، هو الطب المُكمِل، أي الذي يُكمِل الطب العلمي الحقيقي ولا يكون بديلاً عنه. ومن المهم أن نعي أنه ليس بالضرورة أن يكون أي علاج يقترحه أي إنسان هو علاج مكمل، فهذا العلاج يجب أن يكون قد ثبتت فعاليته، ولذا يجب أن يمر بالاختبار العلمي وأن تطبق عليه المعايير العلمية الدقيقة للتأكد من فعاليته، وكذلك من الضرر الذي قد يحدثه. فليس هناك أي دليلٍ علمي حتى الآن، من أن هناك أعشاباً معينة أو طعاما معينا قد يشفي أي نوع من أنواع السرطانات. ولا تزال كل هذه التجارب قيد البحث، ويجب أن لا تصبح جزءاً من المعالجة قبل التأكد من فعاليتها. والأهم من ذلك، يجب عدم اللجوء إليها قبل استنفاد العلاج العلمي التقليدي. إذ أنها جريمةٌ أن يعالج المريض بواسطة علاجاتٍ ليس لها أي إثباتٍ علمي لفعاليتها قبل أن يعالج بعلاجات أثبتت فعاليتها في الدراسات العلمية. وأنا أفهم جيداً توق المريض لأخذ علاجٍ لا «ضرر له». ولكن الأهم من عدم وجود الضرر، هو وجود الفعالية ضد السرطان. وأما بالنسبة لمعالجة المريض كإنسانٍ ككل وليس كجسد، فأنا أؤمن بقوة بأن الإنسان ليس جسداً فقط. ولذلك فأنا أعتبر أن جميع المعالجات التي تصب في معالجة اليأس والألم النفسي والخوف والقلق، وكل التقلبات النفسية التي يعانيها المريض هي جزء مهم بل أساسي من العلاج. وأن معالجة المريض هي أكثر بكثير من معالجة خلايا سرطانية أو خللٍ جسدي. لذلك نقول ان المريض يجب أن يعالج كإنسان مريض وليس كمرض في إنسان.

من كل ما تقدم، أود أن أصلي وأطلب من الله تعالى أن يلهم البشر كي يعوا الحقيقة العلمية، الحقيقة الوجودية والمصيرية للإنسان: أن الإنسان واحد، واحد في ألمه، واحد في فرحه... وأن يكون الالتزام الأول للإنسان ليس الحرب ضد أخيه الإنسان، بل الالتزام معاً لمحاربة المرض، فالمرض هو العدو الحقيقي واللدود للإنسان. ونحن نأمل أن يصبح المعيار الحقيقي للحضارة في أي مجتمعٍ أو دولةٍ في العالم، هو النسبة المئوية لما تخصصه هذه الدولة للإنفاق على البحث العلمي في سبيل الإنسان وليس فيما تخصصه لتمويل العمليات الحربية والعسكرية ضد الإنسان. من هنا ندعو العالم كله إلى دعم البحث العلمي وخاصة ذلك البحث الذي يهدف إلى شفاء المرض. وأتوجه إلى عالمنا العربي لأقول له إنه لن يتمكن من مجاراة العالم والعصر إن لم يتمكن من القدرة على البحث العلمي، وإن لم نتمكن من تجهيز وتحفيز مؤسساتنا العلمية للعمل في هذا الاتجاه، فعبثاً نحاول أن نستورد منتجات البحث العلمي من الغرب لأن البحث العلمي والعلم لا ينموان إلا في تربة خصبة مهيأة لهما. فمن أهم مظاهر التخلف في العالم العربي هو اعتقادنا بأن البحث يمكن استيراده وكذلك اعتقادنا أن البحث العلمي هو شيء من الرفاهية لا شيء من الضرورة. وليكن معلوماً أن الهدف الأساسي من البحث العلمي ليس التوصل إلى معرفةٍ علميةٍ معينة بقدر ما هو صنع عقلٍ جديدٍ، بل إنسان جديد. إن صنع إنسان جديد هو ما يحتاجه العالم العربي، إذا أراد أن يحيا، وأن تكون حياته تستحق الحياة.

* مدير برنامج الأبحاث السرطانية ـ مستشفى سانت لوقا في هوستن

[email protected]