هل يلتفت إلى رأي الشارع؟

TT

الأكثر صوابا الاستماع الى رأي الخبراء وحدهم لأنهم اكثر من غيرهم دراية الا في القضايا العامة، حيث لا يكفي رأي مهندس لشق طريق، بل لا بد من معرفة رأي اهل الحي ايضا. نحن الآن في إشكال كبير بين الاستماع الى رأي الخبراء او الاصغاء الى رأي الشارع في القضايا السياسية الكبيرة، كما هو الحال عليه في الازمة العراقية. فالمؤكد ان خبيرا في وزارة الخارجية يفقه اكثر من كل المنتصبين أمام شاشات التلفزيون في تفاصيل هذه القضية، فهل يحتكم اليه ام يُستمع الى رأي الناس؟

الاكيد ان القضايا التي تمس حياة الناس، مثل الحروب، او تؤثر على عواطفهم جماعيا لا بد من قياس الرأي العام فيها. والرأي العام رأي لا يأتي من فراغ بل هو مثل العجين مهيأ للتعديل والتأثير. ومعظم ما نراه من سيل من المعلومات والطروحات غالبا، هدفها الاخير التأثير على الرأي العام حتى يقبل بقرارات صعبة مثل الحرب او فرض ضرائب او غيرها. وبدون التمهيد والاقناع فأي قضية مهما كانت سليمة قد تواجه معارضة شعبية.

ونحن بطبيعة تركيبتنا السياسية، على اعتبار انه لا يوجد تصويت سياسي حقيقي، وبحكم موروثنا الثقافي الذي يحتقر الرأي العام ويعتبره مسألة ثانوية، فان معظم حكومات المنطقة تلجأ غالبا الى احد حلين، إما اتخاذ قراراتها تحت الطاولة حتى لا تواجه الناس، وإما مسايرة الناس على حساب مصالحها تلافيا للصدام. والحل هو في توفير المعلومات والاجتهاد في التأثير، ثم بعد ذلك تأتي مسايرة الرأي العام.

وعندما ذكرت ثقافتنا الموروثة كجزء من المشكلة فهذه حقيقة، فهي تعتبر العامة أنعاماً، ودهماء وغوغاء، وهذا رأي منقول من التراث يقول «الواجب على العاقل ألا يغتر بكلام العوام وبثنائهم، وألا يثق بعهودهم وإخائهم». وكان الحسن يقول اذا رآهم «هؤلاء قتلة الانبياء». وقد صدق في جانب ان الرأي العام لا يعتمد سياسة دائمة لكنه يمثل نبض الشارع الذي قد يسبب تجاهله اشكالات كبيرة.

والايمان بالخبرات وفصل الواجبات حسب التخصصات فكرة عربية موروثة لكنها لا تنفع في الشأن السياسي العام. ففي نظر الموروث العربي ان العامة «اذا اجتمعوا ضروا واذا تفرقوا نفعوا». وتفرقهم هنا ايجابي يعني «رجوع كل واحد منهم الى صناعته، فيخرز الاسكافي ويخصف الحذّاء وينسج الحائك ويخيط الخائط فينتفع الناس بهم».

لكن الآن وبسبب تشابك المصالح صار للإسكافي والمهندس والمزارع وزن لم يعد سهلا تجاهله، خاصة ان مثل هذه القرارات تمس حياة الدهماء اكثر من غيرهم، فهم الذين يقادون للقتال، وهم الذين تجبى منهم الرسوم فتصبح موافقتهم شرطاً للأمان المسبق.

ورغم الايمان بضرورات تأمين الموافقة الشعبية فنحن لا نعني تسليم القرارات الخطيرة للجان الشعبية او الغوغاء بل نتحدث عن قدرة صناع القرار على الاقناع والحصول على موافقة كافية في كل مشروع يمس حياة الاغلبية او عواطفها.

اما سياسة بعض حكومات المنطقة بحل القضايا تحت الطاولة، على اعتبارها اسهل من مواجهة الرأي العام والمخاطرة بمصادمته، فلا تدوم. وهذا يذكرنا باتفاق اوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية، قبل ان تتسمى سلطة، واسرائيل. فقد ظلت المنظمة تنفيه او تتجاهل الاسئلة حوله. وعند بداية التطبيق لم يكن له (الاتفاق) تأييد لأن احدا لم يفهمه، وتحول الحل داخل المعسكر الفلسطيني الى وصمة عار، كل يتبرأ منه.

وهذا مسؤول خليجي عندما سئل عن القواعد العسكرية قال متبرئا: «نحن لا نستطيع ان نكبح جماح اميركا». والصحيح انه ادعى على الاميركيين، فهو الذي دعاهم وهو الذي تبرع بدفع تكاليف جزء من القواعد، وكان الاحرى به ان يقول ان مصلحة بلاده العليا تكمن في وجود هذه القواعد والتعاون مع الاميركيين، لا ان يحاول الترويج لرواية غير صحيحة امام مواطنيه والقاء اللوم على الاميركيين.