أيام فاتت

TT

في هذه الأيام التي يكثر فيها الحديث عن التشرذم الموزائيكي للعراقيين واحتمالات توحدهم او تفرقهم، بين شيعة وسنة، بين مسلمين ونصارى، بين اسلاميين وماركسيين، ننسى هذا الانقسام العميق بين المدشدشين والمبنطلين، لابسي الدشداشة ولا بسي البنطلون. كان لهذا الانقسام حكايات ملحمية في تاريخ العراق الحديث. فبينما نجد في منطقة الخليج ان المدشدشين هم سادة القوم، والمبنطلين هم الخدم وسواق السيارات، تنقلب الآية في العراق حيث يكون المدشدشون فلاحين وكناسين وخدماً ينظر اليهم باحتقار المبنطلون الوجهاء. ترتبت على هذا الوضع كما قلت كثير من المقالب.

كان من المبنطلين في اوائل تشكيل المملكة العراقية في العشرينات، السيد غازي نفيسة، مأمور استهلاك قضاء الشامية، في لواء الديوانية جنوب العراق. كان يلبس السترة والبنطلون والقميص والرباط كسائر الموظفين المدنيين. ذهب لزيارة بغداد وعاد بعد بضعة ايام من القصف والعربدة. اخذ قطار البصرة المار بالديوانية. وكموظف محترم ركب في مقصورة من الدرجة الأولى. ابت نفس السيد نفيسة ان يركب مع الغوغاء المدشدشين من ركاب الدرجة الثالثة. ما ان استقر في المقصورة، حتى رأى رجلا يلبس الدشداشة والعقال، يدخل المقصورة. عاجله بالسوآل. «تسمح لي سيد. هذي درجة اولى». اجابه الرجل. «نعم استاذ. اعرف. انا حاجز فيها». ازداد مأمور الاستهلاك عجبا واشمئزازا. قال لنفسه: «وين وصلت بينا الدنيا بهالزمان؟ اهل الدشاديش صاروا يركبون بالدرجة الأولى! هذي كلها من ورا الحكم الوطني. طلعوا عيون الناس! المعيدي والأفندي صاروا سوا».

ولكنه كتم غيظه وجلس يجامل رفيق السفر. جرهما الحديث الى موضوع تطوير منطقة الشامية التي تقدم سكانها بعريضة الى وزارة المالية يطالبون فيها بتأسيس مجارش عصرية لطحن الحبوب وجرشها، ومكابس للتمور وبناء سايلو لخزن الحنطة فلا يضطر المزارعون الى بيعها بيعا رخيصا عند الحصاد. جاء دور مأمور الاستهلاك ليعلق على هذه المقترحات فقال انها جميعا من افكار الشيوعيين «يريدون يقطعون خبز الناس من امثالي». فراح يروي كيف انه كمأمور استهلاك لا يترك كيس حنطة يمر بدون ان يأخذ حقه منه، لأنه في هذا البلد لا يستطيع الموظف ان يعيش بدون رشوة. قال: «مثل ما تشوف، انا قدامك احسن ملابس ألبس، ربطتي كلها حرير، زوجتي طامسة بالذهب. احسن عيشة عايش. ما اسافر الا بدرجة اولى. وكلها من وين؟ من وظيفتي في وزارة المالية، مأمور استهلاك الشامية. وهالكلاب الشيوعيين جايين يريدون يخربون عيشتنا. يريدون يبنون سايلو للحنطة. يطالبون بمكبس للتمر. اوف! الله يلعنهم هالكفرة اللي ما يعترفون حتى بوجود الله».

لاحظ السيد غازي نفيسة ان هذا الرجل المدشدش المعقل المنعل، كان يستمع اليه باهتمام كبير. استغرب كثيرا من ذلك لأن من عادة العرب ان يتكلموا لا ان يستمعوا. ازداد استغرابا عندما وجد ان هذا الرجل لم يتطرق قط الى موضوع الحريم والنسوان وبنات بغداد. بدلا من ذلك راح يسأله عن احوال الشامية وكيف الزرع والماء. اجابه باقتضاب: «انتو يا المعدان مصيبتكم كبيرة. الحكومة تعطيكم فلوس تروحون تاخذون بيها مرة أو تشترون بندقية تتقاتلون بيها».

اخيرا وصل القطار إلى مدينة الديوانية فلاحظ السيد غازي نفيسة كل مصابيح المحطة مضاءة والرصيف نظيف ولا يوجد أي شحاذين عليه ولا حتى بياعات لبن وقيمر. ما ان توقف القطار نهائيا، حتى لاحظ متصرف اللواء السيد عباس البلداوي وقائد الجيش ومدير الشرطة وكل وجهاء البلد يخفون الى هذه المقصورة. يفتحون الباب ويرحبون بالرجل المدشدش: «الحمد لله عالسلامة معالي الوزير! اعطيني يدك! اعطيني يدك صاحب المعالي.... استغفر الله!».

فتح مأمور الاستهلاك النافذة الجانبية ليسأل احد الشرطة: «منو هذا الرجال بالدشاشة والنعال؟».

«ما تعرفه وهو كان قاعد وياك؟ هذا الحاج عبد المحسن شلاش وزير المالية، جاي يبحث موضوع السايلو ومكبس التمر!».