الحسم العسكري برسم التأجيل

TT

يبدو أن الحسم العسكري الأميركي في العراق برسم التأجيل الى ما بعد آذار (مارس) المقبل على الرغم من تهديدات جورج بوش بأن الوقت بدأ ينفد والظاهر ان صبره وصبر الصقور في إدارته بدأ بالنفاد.

فهناك موسم الحج وعيد الأضحى المبارك في شباط (فبراير) وهناك طلب المفتشين الدوليين بتمديد مهمتهم التي تنتهي في 27 كانون الثاني (يناير). وهناك الأمم المتحدة التي لم تجد بعد مبرراً لضرب العراق. وهناك فرنسا والمانيا وروسيا والصين والعديد من دول العالم ما زالت غير مقتنعة بمبررات الضربة العراقية ولا تخفي تخوفها من انعكاساتها السلبية. ناهيك عن المحاولات الجارية من قبل جهات إقليمية ودولية لحمل الرئيس العراقي على التنحي وهي محاولات محكومة بالفشل المسبق. بالاضافة الى أزمة كوريا الشمالية التي استغلت انشغال الولايات المتحدة بالعراق فاستأنفت علانية برامجها النووية.

في المقابل، يبدو أن الحسم العسكري الإسرائيلي في فلسطين برسم التأجيل أيضاً الى ما بعد آذار (مارس) المقبل. وهناك الانتخابات الاسرائيلية في أواخر شهر كانون الثاني (يناير) الجاري. وهناك الانتخابات الفلسطينية خلال شهر شباط (فبراير) المقبل ناهيك عن المحاولات الجارية من قبل جهات إقليمية ودولية لتسويق صيغة «خارطة الطريق» بعد الانتهاء من هذه الانتخابات، علماً بأن حظوظها بالنجاح ضئيلة.

وبين محاولات الحسم الأميركي في العراق والحسم الإسرائيلي في فلسطين، تبقي الولايات المتحدة على سياستها الرامية الى تحييد سوريا ولبنان و«حزب الله» عن التدخل في حرب العراق، فيما تبقي إسرائيل على سياستها الرامية الى توريط سوريا ولبنان و«حزب الله» في النزاع، مما يتيح لها توجيه ضربة عسكرية ضد السلطة الفلسطينية والانتفاضة الفلسطينية في الداخل، وضد «حزب الله» على الحدود مع لبنان، في غفلة من الولايات المتحدة المشغولة بالحرب على العراق.

لكن لبنان وسوريا، وبفضل حكمة إميل لحود وبشار الأسد والثقة المتبادلة بينهما، سوف يجنبان بلديهما ما تسعى إسرائيل الى توريطهما فيه. أما «حزب الله» فهو أذكى من أن تجره إسرائيل الى حرب تأتي وفق شروطها وتفرض هي مكانها وزمانها.

ومع كل ما يرسم في الأفق وفي غرف العمليات من مخططات «وسيناريوهات» للمنطقة العربية، يظهر أن سوريا ولبنان يطبقان وحدهما استراتيجية الصمود المقرونة بالحيطة والحذر، ويغلب الشلل والعجز على ما تبقى من العالم العربي الذي راح يستسلم للأمر الواقع.

أما في العراق فيبدو ان الكل بات مقتنعاً بأن لا أحد يقدر شيئاً إذا ما قررت الولايات المتحدة شن حربها عليه. اما في فلسطين فإن لا أحد يجرؤ على الاقدام على شيء طالما أن الولايات المتحدة منحازة لإسرائيل بهذا الشكل السافر.

في كل حال يتبين بجلاء ان واشنطن لا تأخذ في الحسبان إلا مصالحها ومصالح اسرائيل، ولا أحد يسأل عن مصالح المنطقة وشعوبها ؟ وهل يجب أن نقبل بما تخططه الولايات المتحدة ومعها إسرائيل ولو لم يكن الامر لصالحنا ؟ وهل نتبناه من دون مناقشة ومن دون السعي الى لفت نظر المسؤولين الأميركيين الى المخاطر التي تحيط بالمنطقة من جراء مخططاتهم، بالاضافة الى المخاطر التي تحيط خصوصاً بأصدقاء واشنطن من العرب والمسلمين؟

وقد استمعت الى مسعود ادريسي، السفير الإيراني في لبنان، يرسم الصورة الاشمل لاهداف الولايات المتحدة من حربها ضد العراق وهي ثلاثة : بسط نفوذها الكامل على الشرق الاوسط بصورة احادية ومن دون أي منازع او شريك، اضعاف كل القدرات العربية والاسلامية لحساب إسرائيل بدءاً بدول الصمود، كالعراق وايران وسوريا ولبنان، وانتهاء بالدول الصديقة كالسعودية ومصر والاردن وتركيا، واخيراً وضع اليد على مصادر النفط في المناطق العربية والاسلامية والتحكم باسعاره لما فيه مصلحة الاقتصاد الاميركي.

واني على يقين ان موضوع الاقتصاد هو الشغل الشاغل للرئيس الاميركي. فهو يرتعب امام السيناريو الذي حصل لوالده في بداية التسعينات. لقد ربح جورج بوش الاب حرب الكويت لكنه خسر الانتخابات الرئاسية بسبب الاقتصاد. وأظن ان الاب يسهر بصورة يومية ومباشرة للحيلولة دون أن يقع الابن في المطب الذي وقع هو فيه.

ويعاني الاقتصاد الاميركي من حالة ركود قلّ نظيرها في الخمسين سنة المنصرمة. والحل الوحيد الذي يراه الاخصائيون لتحريك الركود الاقتصادي هو تخفيض سعر برميل النفط من سقف الثلاثين دولاراً الى عتبة الخمسة عشر دولاراً. وهذا التخفيض يدمر اقتصاديات دول المنطقة لكنه يطلق عجلة الانتاج الاميركية.

ولا استبعد ان يكتب النجاح للحملة الأميركية على العراق في حال حصولها، وتحقق الانتصار الذي تبغيه. لكن واشنطن تعتقد عن خطأ أنه بمقدورها أن تفرض سيطرتها على العالم بالقوة ومن دون الأخذ في الحسبان أن الشعوب العربية سبق لها وانتفضت ضد الاستعمار الأوروبي ويمكن أن تعيد الكرة ضد الاستعمار الاميركي الجديد.

والانتصار الذي تحققه في البداية سوف يتحول الى هزيمة في النهاية. فالاحتلال العسكري سوف يزيد من نزعة التطرف لدى الشعوب العربية والاسلامية وروح العداء والكراهية للولايات المتحدة، وسرعان ما ستتحول المصالح الأميركية هدفاً ثابتاً لكل الحركات العربية والاسلامية.

أرى ان واشنطن ما زالت تفتقد حتى الساعة الى حجة تستخدمها لغزو العراق. ويحاول كبار المسؤولين في الادارة الاميركية عبثاً ايجاد مثل هذه الحجة للحصول على غطاء مجلس الأمن الدولي والرأي العام العالمي الذي بات باكثريته الكبيرة يعارض الحرب على العراق. وقد دلت الاستقصاءات في فرنسا ان 77 في المئة من الفرنسيين لا يريدون هذه الحرب، سواء بموافقة الامم المتحدة ام من دونها.

وهكذا يقود الرئيس الأميركي حملتين: حملة عسكرية في الخارج من أجل إحكام السيطرة الاميركية على العالم، وحملة انتخابية في الداخل من أجل تجديد ولايته، والعراق جزء من الحملتين.

بالأمس كان لبنان يشكل ورقة انتخابية داخل إسرائيل التي فقدتها منذ تحريره في ايار (مايو). أما اليوم فقد بات العراق ورقة انتخابية بيد واشنطن، والفلسطينيون ورقة انتخابية تتنازعها الأحزاب الاسرائيلية.