هل هؤلاء جميعاً مجانين؟!

TT

هل سيأتي زمان أو يوم تُمتدح فيه البشرية بهذه الجملة: «لقد كان معظم البشر في مطالع القرن الحادي والعشرين محبين للحروب، عاشقين لمشاهدها وصورها، متلهفين على نشوبها واستعارها».. والسؤال التمام هو: وهل سيأتي على الناس زمان يكون فيه مقياس رقي البشرية: تأييدها للحروب؟

الجواب بنعم عن هذين السؤالين يعني: اتهام البشرية بالحمق والسفه والجنون. اذ ليس ثمة بشرية سوية عاقلة تعشق الحروب، وتجعل محبتها مقياسا لرقيها وسموها.

في ضوء هذه الحقيقة التي يتفق عليها اسوياء البشر وعقلاؤهم ـ من كل جنس ودين ومكان ـ نسأل: هناك أصوات ـ متعددة متنوعة في عالمنا هذا، وفي وقتنا هذا ـ قد ارتفعت مستنكرة الحرب على العراق، منادية بالعمل على كفها ووقفها، مطالبة بحل المشكلة أو الأزمة بالوسائل السلمية.. فهل أصحاب هذه الأصوات مجانين؟

ولكن من هم أولاء أصحاب الأصوات؟.

1 ـ 80% من الأمريكيين يعارضون الحرب على العراق. هذه هي نتيجة استطلاع للرأي، أجرته شبكة «سي ان ان» التلفزيونية الامريكية، بعد عودة المفتشين الدوليين الى العراق.

2 ـ اجرت مجلة «تايم» الأمريكية استطلاعا للرأي كذلك. وكان السؤال المركزي في هذا الاستطلاع هو: ما هي الدولة في هذا العالم التي تشكل أكبر خطر على السلام العالمي عام 2003: كوريا الشمالية او العراق او الولايات المتحدة؟ وكانت نتيجة الاستطلاع على النحو التالي:

ـ كوريا الشمالية 10.3 بالمئة.

ـ العراق 15.1 بالمئة.

ـ الولايات المتحدة 74.9 بالمئة.

3 ـ «ترى ادارة بوش اننا يجب ان نقوم بضربة مبادأة ضد العراق. ولكن ما تدعو اليه الادارة الامريكية ليس ضربة تحوّطية من خطر ماثل، بل ضربة وقائية والخطر غير ماثل. وهذا ما يعارض القانون الدولي وقواعد اداء مختلف الدول وفق المعايير المتفق عليها دوليا».. السيناتور ادوارد كيندي.

4 ـ اجرت صحيفة «لوس انجلس تايمز» استطلاعا للرأي كانت نتيجته: ان 72% من الامريكيين عبروا عن عدم اقتناعهم بالأدلة التي قدمتها الادارة الأمريكية كمسوغ للحرب على العراق.

5 ـ تقدم 13 الف استاذ جامعي امريكي بمذكرة مفتوحة الى الرئيس الامريكي جورج بوش يدعون فيها الى «الامتناع عن شن حرب على العراق، والى التبصر في العواقب والمآسي والتداعيات الخطرة التي تترتب على شن حرب».

6 ـ ان هيمنة امريكية قوية لن تؤدي سوى الى اقناع العراقيين وباقي العالم بأن العملية العسكرية ضد العراق لها دوافع استعمارية، ولا تستهدف مجرد نزع اسلحة الدمار الشامل العراقية». معهد جيمس بيكر جامعة رايس.

7 ـ «نحن نعتقد ان الاشخاص يجب ان يقوموا بمسؤولياتهم تجاه ما تفعله حكومتهم. ويجب علينا ابتداء أن نعارض الظلم الذي يتم باسمنا. ولهذا ندعو كل الأمريكيين الى مقاومة الحرب التي تستعد حكومتنا ـ وعلى المكشوف ـ لشنها على العراق. ذلك البلد الذي ثبت ان ليس له صلة بالفظائع التي ارتكبت في 11 سبتمبر 2001. أي نوع من العالم سوف نعيش فيه اذا كانت الادارة الأمريكية تملك شيكا على بياض لإنزال قوات كوماندوز وفرق اغتيالات في أي مكان من هذا العالم تريد ان تتوجه اليه». هذه فقرة من بيان فكري سياسي ثقافي اخلاقي توجهت به منظومة من المفكرين والمثقفين والفنانين الامريكيين الى الادارة الامريكية، والى الأمة الامريكية. ومن بين الموقعين على البيان: بيل جيفيجني، استاذ القانون بجامعة نيويورك.. ونعوم تشومسكي، المفكر المعروف.. ومايكل راتنز، رئيس مركز الحقوق الدستورية.. وجيمس لافيرتي، مدير تنفيذي لجماعة القانونيين الوطنيين في لوس انجلس.. وديفيد ريكر، منتج سينمائي.. ومارتن لوثر كنج الثالث، رئيس مؤتمر قادة المسيحيين الجنوبيين.

8 ـ في هذا اليوم (السبت 18 يناير) تداعى معارضو الحرب الأمريكيون وتنادوا الى تنظيم مظاهرة كبرى في واشنطن تترجم ارادتهم المناهضة للحرب.

وهذه الاصوات المتعددة المتنوعة صادرة كلها عن الولايات المتحدة ذاتها.

9 ـ «اصدرت مجموعة من صميم (عصب الحزب الجمهوري) وهم اصحاب شركات ورجال اعمال، بيانا معارضا للحرب قالوا فيه: «ايها الرئيس. لقد ايدنا حرب الخليج، والتدخل العسكري في افغانستان. ولكن حربك ضد العراق ليست عادلة. وحين كنت مرشحا في انتخابات عام 2000 دعمناك لانك وعدتنا بانك ستكون اكثر تواضعا في التعامل مع العالم. لقد منحناك اصواتنا وتبرعات شركاتنا المالية، ولكن نشعر انك خدعتنا، ولذلك نطالب بأن تعيد لنا اموالنا، وان تعيد لنا بلادنا. ان العالم يريد ان يرى صدام حسين مجردا من السلاح. ولكن يجب عليك ان تجد سبيلا افضل من الحرب لكي تحقق ذلك.. لماذا تقودنا الى وضع فشله حتمي»؟.

10 ـ من الأصوات المعارضة للحرب: الاتحاد الأوروبي. وقد عبر عن هذه المعارضة: رئيسه الحالي.

11 ـ اتخذت المانيا، منذ نودي بالحرب على العراق: موقفا رافضا للحرب.. وهذه هي خلاصة آخر تصريح واضح لمستشار المانيا: «ان بلادنا لن تقحم نفسها في حرب ضد العراق حتى ولو صدر قرار من مجلس الأمن يأذن بهذه الحرب».

12 ـ فرنسا لا تزال تنادي بالحل السلمي للمشكلة مع العراق.. وفي مطلع العام الميلادي الجديد، تحدث الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى القيادات العسكرية للقوات المسلحة الفرنسية.. وبغتة انتشرت انباء تقول ان فرنسا غيرت موقفها وقررت خوض الحرب. ولكن الرئيس الفرنسي سارع يقول: «انه لم يغير ـ قط ـ موقفه من حرب محتملة على العراق. وان بعض وسائل الاعلام المحبة للاثارة اخرجت كلامه اخراجا لا يتناسب مع مضامينه».

13 ـ الصين وروسيا لا تزالان تعارضان الحرب، ولو بمعيار المحافظة الاستراتيجية على مصالحهما على المدى الطويل.. ولو من ناحية (عدم الاطمئنان) الى الوعود الامريكية التي قدمت اليهما.. والمحافظة والخوف نتاج تفكير عقلاني.

14 ـ أظهر استطلاع للرأي في كندا: ان 38% من الكنديين يعتقدون: ان الحرب على العراق تمثل تهديدا جديا للسلام العالمي.

15 ـ هاجم زعيم الانجليكان في العالم، كبير اساقفة كانتربري (روان وليامز) هاجم: التوجه الى الحرب، وفي اشارة واضحة الى قادة الحرب من السياسيين قال: «ان الذين كان يعتبرهم المجمع حكماء لم يفعلوا سوى ارتكاب أفدح الأخطاء».

16 ـ دعا الكاردينال (كورماك ميرفي اوكونور) رئيس الكنيسة الكاثوليكية في بريطانيا الى «التراجع عن الحرب المشوهة لكل قيمة سامية، ولكل شيء جميل».

17 ـ وقف عظيم النصارى، بابا الفاتيكان، موقفا واضحاً وصارما من الحرب، اذ طالب باستحضار العقل والضمير من اجل الابتعاد عن جنون الحرب ومآسيها وبشاعتها.

18 ـ ولقد شهد العالم، ولا يزال يشهد، في عواصم ومدن شتى: مظاهرات متفاوتة المستويات، تعلن ادانتها للحرب، وتنتقد مسعريها.

فهل هؤلاء جميعا مجانين؟

ومن العاقل اذن؟.. دعاة الحروب ومسعروها؟.. لئن كان دعاة الحرب عقلاء، فلتتفق البشرية على تخصيص اعظم جائزة في التاريخ والحاضر لدعاة الحرب ومسعريها: في التاريخ الغابر، والحاضر الراهن، والمستقبل: القريب والبعيد.. وليكن في مقدمة عطايا الجائزة: شهادة توثق (عقلانية) دعاة الحروب وتزكيها.

ان هذا الحشد البشري الضخم ـ المتنوع المستويات ـ: الكاره للحرب، الداعي الى اطفائها، دليل على ظاهرة انسانية عامة مركبة من الحبور الغامر، والحزن الأليم.. أما الحبور فمبعثه: ان في الأسرة الانسانية شرائح عريضة تحمل عقلا صحيحا، وضميرا حيا.. واما الحزن فمبعثه: ان هذه الشرائح أشرف وأعقل وأشجع من عرب ومسلمين كثيرين لم تعرف لهم كلمة عاقلة، ولم يسمع لهم صوت شريف شجاع.. فباستثناء حالات شجاعة ـ تدل على اولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض ـ، تبدو الأمة وكأنها تتجرع الذل بفرحة ومتعة!!. فهناك سياسيون بلغ بهم الجبن حدا يوشك ان يسقط اهليتهم في تولي المقاليد العامة.. وهناك مثقفون واعلاميون تخصصوا في اعادة كتابة اراجيف الاعلام الامريكي بالحرف العربي، بعد احداث سبتمبر القبيحة الوجه واليد واللسان والهدف والعاقبة.. وهم في هذه الظروف قد تخصصوا في (ترويض) الأمة على تقبل التضليل الاستراتيجي: النفسي والسياسي والأمني، حتى لكأنهم اصبحوا كتائب تمهيد للغزو والحرب والضرب.