نفحات من البردوني

TT

قلبي على اليمن بلد نشوان والبردوني، وبلقيس، وأروى، وعلي بن الفضل والمقالح، فما تقوله عنه الصحافة الاجنبية يدمر سمعته السياحية، والادبية، والسياسية، ويوحي بأنه غابة فالتة أو بلغة تلك الصحافة «جنة حقيقية للارهاب»، والتهمة لا تطاله وحده، فدوما يكون للجيران من الخير والشر نصيب.

مهرجانات «رامبو» التي ينظمها الفرنسيون احتفالا بتلك البلاد التي تعلم فيها شاعرهم ان ينطق «الله كريم» لم تنفع شيئا، ولا مثلها اجدت المبادرة الالمانية التي نظمت الملتقى الشعري الدولي الذي تموله برلين وتستضيفه صنعاء، وحتى على الصعيد الاجتماعي لم يلطف الصورة تعيين وزير «أنثى» لحقوق الانسان.

ودعك من الملاحظة الاخيرة أيها الصديق الحاضر بكثافة يا بردوني، فتعيين وزيرة في دولة ما لا يوحي بأن المرأة تقدمت فيه، بقدر ما يشير الى رشوة رسمية تقدمها السلطات للنساء في الداخل، ولتلطيف الصورة الكالحة في الخارج، فها هي المرأة المصرية لم تحصل على حق الخلع الا العام الماضي في حين ان عبد الناصر عين امرأة في وزارته منذ الستينات، ورغم ذلك، فإن عائشة راتب لم تقدم للمصريات إلا نفس ما قدمته للعراقيات أول وزيرة عربية في التاريخ الحديث «امكانية الحلم بالمساواة» فها هي نزيهة الدليمي التي استوزرها الزعيم عبد الكريم قاسم في الخمسينات تشيخ بهدوء في منفاها الالماني فيما اضطهاد العراقيات «شذر، مذر» بسيوف الداخل وسيوف الخارج.

لقد قال عبد الله البردوني شاعر اليمن الكبير في كتابه «اليمن الجمهوري» ان آخر القرن التاسع عشر وأول العشرين «كان من أخصب العهود بالفكر السياسي القائم على أصول ثقافية هدوية» فأين ذهبت تلك الخصوبة، وأين صارت كل تلك الاستنارة يا شاعر العهدين..؟

الجواب في قصيدتك الشهيرة «غريب أمر ما يجري..» التي حاولت فيها ان تعرف صنعاء على عدة أشكال من المستعمرين السربيين، وأين أنت ايها المبصر اليمني الكبير لتشاهد عودة الاستعمار الجهري، العلني، والمباشر.

هم لا يأتون في قارورة العطر أيها الموغل في نومه الهادئ ولا في القمصان وأربطة العنق، وزجاجات الويسكي ولو عدت من لحدك المريح لما قلت:

غزاة لا أشاهدهم

وسيف الغزو في صدري

تعال اليوم وستشاهدهم بالبوارج والمدمرات والقوات المجوقلة وهم يضربون أنى شاؤوا ومتى شاؤوا دون استئذان أحد، فبسمل وحوقل في موتك الهني، واحمد ربك انك مت قبل ان تشاهد وتسمع من يقول عن أرض بلقيس انها صارت جنة تخلف وارهاب.

لقد اصدرت عام 1974 ديوانك البديع، السفر الى الايام الخضر وقرأت لنا بعضه قبل صدوره فابتهجنا وسميناك مع الشيخ امام على غلاف احدى المجلات «شيوخ المبصرين» ونحن نستأذنك اليوم في سحب اللقب، فقد وعدتنا بالايام الخضر، وها قد وصلنا الى الايام السود يا صاحب البشارات الخضراء يا من خذله أهله.

ولا تسلني كيف؟ فأنت أدرى بخدر المقيل ألم تقص علينا ذات يوم حكاية الامير اليمني الذي تهيأ لمقاومة الانجليز شعريا بقصيدة

أيها الغربي تورع

ان سيف الحق اقطع

وكان صادقا في تشكيل المقاومة لكن مقاومته كانت تتلاشى كما قلت «مع نفث قات المقيل» فهل تلك الحكايات، والشخصيات، والايام هي التي هدتك الى العنوان الاجمل «زمان بلا نوعية» قبل ان تدخل في نفق التشاؤم، وتعود الى خط المعلم الاكبر المعري، وتنشر «ترجمة رملية لأعراس الغبار».

انه الزمن الذي تحدثت عن رماديته وغباره، وها نحن قد وصلنا اليه دونك، فاتركنا لاقدارنا وأحزاننا، واعمل بالنصيحة التي قدمها الماغوط للسياب: «تشبث بموتك أيها الأحمق».

قلبي على اليمن، وقلبي على العراق، وقلبي على أمة يأتيها الطوفان، وقواربها اما غارقة أو مثقوبة أو ممزقة الاشرعة.

هل نتفاءل ايها المسافر الى الايام الخضر..؟ سنحاول، وما بيدنا غير تلك الحقيقة الكونية التي تؤكد ان الساعات التي تسبق الفجر هي الاكثر سوادا، ونحن فيها فمتى تبزغ شموس طال انتظارها..؟