سحق الوقت

TT

عندما تحول الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول من كتابة المسرحيات الى النثر، وجد نفسه امام مفترق عظيم. ففي المسرح، اشخاصه هم الذين يتحدثون عن انفسهم، اما في النثر، وخصوصاً في المذكرات، فأنت تتحدث عن نفسك وحدها. وباسمها ايضاً. وقال «الحديث عن الذات امر بالغ الصعوبة، لأننا نصدق ارتياح كل سوء يحدّث به الكاتب عن نفسه، ويصعب علينا ان نتقبل اي مفاخرة ينسبها الى ذاته، الا ببرهان. غير اننا نأسف على الدوام لأنه لم يترك مثل هذا الامر لغيره في اي حال».

من بين عشرة او مائة او خمسمائة كتاب اشتريها في العام، اشعر بالندم على شراء 5 الى 10% منها. واشعر بندم شديد على 2%. ويخطر لي مرة في العام او العامين ان ارد كتاباً الى بائع الكتب، مهما كان سعره زهيداً، لأنني اخشى على الكتب الاخرى من رائحة نضوحه. وقد ذهبت الاسبوع الماضي مع السفير عباس غزاوي الى مكتبة «بيسان» على اساس ان نتبادل النصائح حول ما فاتنا شراؤه او ما استجد من اصدارات. وانتقيت كتاباً وضع عليه مؤلفه صفة «مذكرات» فسألني السفير غزاوي ان كنت اعرف صاحبها، فنفيت، وقلت له انني سأغامر في التعرف اليه لأنني اهوى بصورة خاصة السِير والتجارب والعِبر والدروس «الطبيعية».

في الصفحات الثلاث الاولى اعتقدت ان صاحب المذكرات هو ادولف هتلر ولكنه ولد بطريق الخطأ في بلد عربي. وبعد ثلاث صفحات اخرى خلتني امام نابليون بونابرت. ثم امام بونابرت دون الحاجة الى الاسم الاول. كأن تقول «ديغول» او «شو» او «ماو» او «تشرشل». وصفحة بعد اخرى تراءى لي ان هذا العالم العربي ناكر للجميل. انه لم يسجل في تاريخه الذهبي مع مَن تعشى صاحبنا واين. وعلى مَن القى التحية وهو داخل الى المطعم. وفي فصل آخر نراه انتقل الى حل القضايا المستعصية: النزاع مع الحلف الاطلسي. الخلاف بين الصين وروسيا. قضية بقاء تايوان دولة مستقلة او عودتها الى «البرّ الأم». لا تترك «المذكرات» صحيفة الا وتنقل عنها خبراً او تصريحاً. ومع ذلك يضع صاحبها كل شيء في جراب «مذكراته»، ويطل من كل سطر سواء كان الحدث في الصين او في حطين، واذا توقف امام مشكلة لم تحل بعد سارع الى طمأنتنا بأنه لا يزال يعمل على الموضوع وان الحل قريب.

طبعاً خطر لي مرات كثيرة ان اتوقف عن قراءة «المذكرات». او ان اردها الى «بيسان» المكتبة التي اكن لها وتكن لي كل ودّ ولا يمكن لاصحابها ان يستعبطوني في اي ظرف من الظروف. لكنني قررت ان اكمل الكتاب بحثاً عن لمحة او لمعة من التواضع او الحياء او الصدق، او عن كلمة حق في اي مخلوق من خلق الله سواه، يوم كان طاحناً مثل هتلر ومدبّراً مثل نابليون وحكيماً مثل ديغول وشاعراً مثل المتنبي. لكنني لم اعثر على احد او شيء او مجد سواه. من الاربعينات الى السبعينات. ومن المحيط الى الخليج. لا احد سواه ولا انسان غيره ولا سعادة سوى سعادته. هكذا تبدأ «المذكرات» وهكذا تنتهي. كاتب عظيم يتمشى في دنيا من البرغش، حاملاً الكون على كتفيه، موزعاً «العلامات» على من حوله من عباد الرحمن، قادة ورؤساء وسياسيين. يالسعادة اصحاب الحظوظ ينالون علامة فوق المعدل بقليل. ياله من عالم. ويالي من غبي غامرت بالاستمرار بعد الصفحة الثالثة. ما افظع سحق الوقت.