وكلنا في النهاية من الأطفال

TT

لو كنت من العاملين في مجال السينما، لما وجدت افضل مما يجري هذه الأيام على الساحة الدولية لاخراج فيلم من افلام الاثارة، ربما يتفوق على افلام جيمس بوند، وكل قصص الجاسوسية والحركة التي خرجت بها هوليوود حتى اليوم.

اشياء كثيرة توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، وان ما يجري وراء الكواليس اكثر متعة واثارة مما يجري على خشبة المسرح أمام النظارة والمتابعين. ابطال هذا الفيلم الذي من الممكن ان يكون فيلما مثيرا، هم «محور الشر» وفق التحديد الاميركي، اي العراق وايران وكوريا الشمالية، بالاضافة الى «امبراطورية الخير»، اي الولايات المتحدة وفق تصورها لذاتها، او «الشيطان الاكبر» وفقا لتصور البعض الاخر.

تريد «امبراطورية الخير» ان تنشر الخير والعدل والديموقراطية والسلام في العالم اجمع، فكان ان بدأت ذلك في افغانستان، واسقطت امبراطورية الشر السوفييتية، وعليها ان تواصل حرب الخير هذه في اماكن اخرى من العالم حتى يستتب السلام، وترفرف اعلام روما الجديدة في كل مكان.

عملية ضرب العراق وتغيير النظام هناك نقطة انطلاق لتغيير منطقة الاضطراب في عالم اليوم، اي منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم التفرغ للشرق والغرب معاً. ولكن في كثير من الاحيان لا تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر، فتأتي المنغصات من حيث لا يحتسب احد.

أحد اضلاع محور الشر الثلاثي ينتفض على «الارادة الدولية»، ويعلن انه ماض في فعل ما جعله من البداية عضوا من اعضاء محور الشر، وكأن لسان حاله يقول ما يقوله المثل المصري: «ضربوا الأعور على عينه، قال ما هي خسرانة خسرانة». واختارت كوريا الشمالية وقتا حرجا وحساسا للتمرد، ألا وهو الوقت الذي تستعد فيه امبراطورية الخير لبدء حملة التطهير في العراق. بالنسبة لايران، يبدو ان هنالك تسوية من نوع ما مع الولايات المتحدة، سواء بشكل مباشر من وراء الكواليس، او هناك نوع من اتفاق جنتلمان على ادوار متفق عليها بين الطرفين. كوريا الشمالية تعلم تمام العلم ان الدور قادم عليها بعد الانتهاء من المسألة العراقية، او لنقل المسألة الشرق اوسطية عموما، وبالتالي فلم لا تتغدى بأميركا قبل ان تتعشى بها؟ لم لا تحقق من مصالحها ما تريد طالما سمح الزمان بذلك، وفق قول الشاعر الشعبي: «الى صفا لك زمانك عل يا ظامي، اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها»، فمصائب قوم عند قوم فوائد في البداية والنهاية.

من الناحية السياسية البحتة، تفكير منطقي سليم. فكوريا الشمالية، مثلها مثل اي نظام شمولي، لا تجد كينونتها، ولا تتحدد هويتها، إلا بوجود عدو خارجي خبيث، يمكن ان تعلق عليه كافة الأخطاء، ويمكن ان تبرر به كافة النكسات. المشاكل الداخلية الكورية تهدد شرعية النظام وامكانية استمراره في ظل اوضاع طبيعية، ولذلك لا بد من استمرار الأوضاع غير الطبيعية كي تبقى الأوضاع طبيعية. من ناحية اخرى، وهذا ينطبق على كافة الدول، فانه في ظروف الاضطرابات الدولية، وفي ظل عدم الاستقرار في العلاقات بين الدول، تحاول الدولة ان تحسن من موقعها على سلم التوازنات الدولية. من هاتين الحقيقتين، يمكن ان ندرك بوضوح معنى وهدف التحرك الكوري الشمالي في هذا الوقت بالذات. بطبيعة الحال هنالك تفسيرات اخرى، بعضها ممكن والبعض الاخر منها لا يمكن ان يتم الا في سيناريو سينمائي جميل ومثير، ولكنه ليس بالضرورة قابلا لأن يكون من حقائق الحياة الممارسة على الساحة السياسية.

هل هناك نوع من التحالف الضمني بين كوريا والعراق، بحيث ان التحرك الكوري الأخير يهدف في النهاية الى تخفيف الضغط على العراق في ازمته الراهنة؟ ربما، ولكنه امر مستبعد حين التحليل. فمهما بلغ التفاهم والتضامن بين طرفين، وخاصة بين دولتين، فان اياً منهما لن يضر نفسه حين يكون الضرر واضحا وثابتا. ان تراهن كوريا الشمالية بسلامة نظامها من اجل سلامة النظام في العراق امر مستبعد، حتى لو كان الرهان ضئيل النسبة. هل ان ما تفعله كوريا الشمالية جزء من الادارة العراقية للأزمة، اي ان هنالك تفاهما مباشرا وراء الكواليس لفعل ذلك؟ ايضا فان الاحتمال هنا ضعيف جدا وفقا للتحليل السابق، ووفقا لمعرفتنا للطريقة العراقية المعتادة في ادارة الأزمات، وهي طريقة لا يمكن ان تسمى «ادارة ازمات» بأي حال من الأحوال. يبقى التفسير العقلاني الوحيد لما يجري، رغم ان كل ما يجري خال من العقلانية، هو محاولة استغلال الظرف من قبل كوريا الشمالية بكل بساطة، وهنالك احتمال كبير جدا ان ترضخ الولايات المتحدة لبعض مطالب بيونغ يانغ، من اجل التفرغ للمسألة العراقية وتسوية الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، ولكن الى حين.

ما يجب ان ندركه تماما من اجل فهم ما يجري هو ان الدولة، اي دولة وكل دولة، تشابه في سلوكها سلوك الطفل في كثير من الجوانب. فالطفل غالبا ما يكون انانيا كل الأنانية فيما يتعلق بممتلكاته ومملكته الخاصة، ولا يقبل بالسلوك الجماعي إلا في حالات يفرض عليه فيها الضبط والربط فرضا، دون ان يجرده ذلك من انانيته الكامنة، التي تنتهز أية فرصة للحصول على ما يعتقد انه حق مستلب، او تجريد الآخرين من حقوقهم حين يكون لطفل معين وضع مميز في مجتمع الأطفال. نعم، الدولة طفل في معظم سلوكياتها، ولا يمكن فهم «نفسية» الدولة دون فهم نفسية الطفل وبواعث سلوكه، ولعل سيغموند فرويد يكون مفيدا جدا في هذه الناحية.