حين يعتبر «تديين» المجتمع سبب كراهية أميركا

TT

لم يعد موضوع كراهية السياسة الأميركية محل خلاف في كثير من دول العالم، وبلادنا في المقدمة منها، لكن الاجابات تعددت في تفسير أسباب تلك الكراهية، وقد استلفت نظري في عدد «الشرق الأوسط» الصادر يوم الاربعاء الماضي (15/1) ثلاث وجهات نظر في عملية التفسير هذه، ولم يكن الكم وحده اللافت للنظر فيها، رغم ما في ذلك من دلالة، وإنما مذاهب المفسرين كانت لها دلالتها أيضا، من حيث انها تراوحت بين الجدة والمسؤولية وبين التهافت والهزل.

تضمن العدد المذكور مقالة مترجمة عن صحيفة «يابان تايمز»، كتبها تيونشو تشيو، سكرتير معهد سنغافورة للعلاقات الدولية وعضو البرلمان السنغافوري. كان عنوان المقالة «أميركا الرئيس بوش والود المفقود في آسيا»، وركز فيها الكاتب على ان المصدر الأساسي لذلك الود المفقود هو المواقف أحادية الجانب التي تتخذها الادارة الأميركية (وهو ما تأخذه عليها أيضا الحكومات الأوروبية) وأشار الى ان مشاعر العداء للسياسة الأميركية أقوى في دول جنوب شرق آسيا، التي يزيد فيها الثقل الاسلامي، بسبب موقف واشنطن من الدول الاسلامية، ثم ان الحرب الأميركية ضد العراق اذا وقعت، سوف تضاعف من تلك الكراهية، التي لن تكون مقصورة على الدول الاسلامية، وإنما سوف تتجاوزها الى الدول الأخرى. وفي سياق مقالته استشهد الكاتب الياباني باستطلاعين للرأي العام، الأول شمل 38 ألف شخص في 44 بلدا، وفيه تبين ان مواطني 20 من 27 بلدا جرى فيها الاستفتاء هبطت وجهات النظر الإيجابية تجاه الولايات المتحدة فيها بين عامي 99 و2002، في الثاني استفتى المنتدى الاقتصادي العالمي 300 من زعماء العالم المستقيلين، الحاليين والسابقين، وهم شخصيات شابة مهمة عاملة في مختلف المجالات، وحين سئلوا عما اذا كان هناك رد فعل متزايد ضد النزعة الأميركية الأحادية، فإن 80 بالمائة منهم ردوا بالإيجاب كلياً أو جزئياً.

في المقالة الثانية المنشورة بذات العدد أجاب عبدالرحمن الراشد على السؤال: لماذا يكره السعوديون الأميركيين؟ ورد قائلا ان 84 بالمائة من السعوديين يكرهون أميركا لسببين، أولهما قضية فلسطين، وثانيهما الحملات الاعلامية الأميركية التي صنفت السعوديين جميعاً باعتبارهم إرهابيين. أضاف الراشد ان الموضوع الفلسطيني هو المحرك والحاسم دائما لموقف السعوديين من الولايات المتحدة، من حيث انه اصبح قضية أساسية في حياة الجميع الذين لهم مبرراتهم القوية، فهم متورطون عاطفيا واقليميا في هذه القضية ويرون ان فلسطين صارت آخر بلد محتل في العالم، وهي الوحيدة التي تتجنب الأمم المتحدة إزالة الاحتلال عنها بالقوة ويرون شبه اجماع دولي على حق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة من دون أن يترجم ذلك على أرض الواقع، فلا أحد يستطيع ان يفرض على اسرائيل ما فرض على العراق عام 1991 بانهاء احتلاله الكويت، ولم يفرض أحد على اسرائيل ما فرض على حكومة بلغراد في البوسنة ثم في كوسوفو، ولم يعط أحد الفلسطينيين نفس الحق الذي منح لأهالي أوروبا الشرقية بعد اسقاط الهيمنة السوفيتية عليهم، ولم يمنحوا نفس الفرصة العادلة التي منحت أغلبية سكان جنوب افريقيا بحكم انفسهم.

وخصت الولايات المتحدة بالغضب من دون غيرها لأنها الدولة الوحيدة في العالم القادرة على تغيير هذا الواقع الخاطىء، بالضغط على اسرائيل بالانسحاب من الاراضي المحتلة، وما جعل السعوديين في حيرة من أمر الحكومة الأميركية انها لم تتلقف المبادرة السعودية التي كانت جريئة في طروحاتها، وعادلة في حلها للطرفين معاً.

وإذ تحدثت المقالة الأولى عن جنوب شرق آسيا، والثانية عن السعودية، فإن الثالثة كانت عن مصر، الأمر الذي استوقفني وأثار دهشتي. استوقفني فيها انها تتحدث عن بلد أعرفه أكثر من أي بلد آخر، أما ما أثار دهشتي فهو التحليل المغلوط الذي أورده الكاتب، الذي ينتمي الى جماعة كوبنهاجن ومن أشد دعاة التطبيع مع اسرائيل والاستتباع للولايات المتحدة. لقد سخر الكاتب مما أسماه «التهجم على أميركا» في خطب الجمعة، ومن الادعية التي يرددها بعض الخطباء ويستمطرون فيها لعنات السماء على الأميركان وسياسة بلادهم، وذكر انه وجد في أحد المراجع الأجنبية ان الدعاء على الأجانب (الغزاة والمعتدين) في صلوات الجمعة من الميراث التركي العثماني، ولم ينتبه صاحبنا ان المؤمنين بالغيب يستعينون بالله في مواجهة أعدائهم ويسألونه التأييد والنصرة والانتقام ممن قهرهم وظلمهم، وهي مسألة لها أصلها في القرآن الكريم، الذي تضمنت آياته نصوصا وأدعية يرددها المؤمنون وهم يجأرون الى الله ويستعينون به، واذا كان أحد الباحثين الغربيين قد نسب الأمر الى العثمانيين، فإن أي مسلم لابد أن يكون له ادراك آخر للمسألة.

ليس ذلك أسوأ ما في التحليل المنشور ـ اذا جاز لنا ان نسميه تحليلا ـ لان الأسوأ تمثل في التفسير المدهش الذي أورده الكاتب لكراهية المصريين للولايات المتحدة، وفي خلطه الذي أرجو أن يكون بريئا بين السياسة الأميركية وبين العلم الأميركي، وبين الأميركيين العاديين، إذ استشهد بعبارة نقلها عن الاستاذ نجيب محفوظ تعليقا على مقاطعة المنتجات الأميركية، وتساءل فيها: هل نقاطع الكمبيوتر والانترنت والفضائيات؟ وكأنه يجهل أن المقصود هو الضغط على الاقتصاد الاميركي للتأثير على السياسات الظالمة التي تتبعها واشنطن، وكأنه لايعلم ان أحدا لم يقل بمخاصمة العلم الاميركي أو الشعب الاميركي، وهي المعلومة البسيطة التي يدركها أي مبتدىء في الصحافة، ناهيك من السياسة.

لقد ذكر صاحبنا فلسطين بكلمة عابرة، وركز على «ان ما يؤجج الغضب المصري» تجاه أميركا هو سقوط المجتمع المصري (لاحظ كلمة السقوط هذه) في أيدي الاخوان المسلمين والجماعات الاسلامية المتطرفة»، وذهب الى ان الدولة المصرية في حربها ضد الجماعات الإرهابية «انشغلت عن المجتمع الذي استولت عليه حركة الاخوان وجماعات التطرف، ونجح الاسلاميون في التغلغل في المدارس والجامعات والنقابات والمحاكم والأزهر والشارع، في حركة شاملة هدفها الأسلمة من تحت، لاقامة الدولة الاسلامية، التي عجزت جماعات العنف عن اقامتها بالعنف».

وهو يعدد وجهة نظره أضاف الكاتب ان جهاز الدولة في مصر «ساهم في استيلاء الاسلاميين على المجتمع باستخدام الاعلام (تلفزيون وصحافة) في المزايدة على الاسلاميين أمام المجتمع، من خلال الواعظين التلفزيونيين والدراما التلفزيونية والكتابات الصحفية»، ثم خلص الى ان «اثارة الغضب ضد أميركا (يدخل) ضمن سيطرة الاسلاميين على المجتمع»، غير انه حذر من ان «عواقب الغضب الذي يؤججه الاخوان المسلمون ويزايد عليه الاعلام، غالبا ما تكون الإضرار بالمصلحة الوطنية المصرية، ودفع الدولة المصرية الى وضع حرج مع «الحليفة» أميركا، وأمام الغضب الشعبي»(،،).

لقد اكتشف الكاتب ان الاخوان المسلمين استولوا على المجتمع والدولة في مصر، واعتبر ان المشكلة ليست في شيء من السياسة الأميركية ولكنها تكمن في ما وصفه «بتديين المجتمع والاعلام»، وذكر ان ذلك «التديين» الذي استهجنه هو الذي يفسر هجوم خطباء المساجد على السياسة الأميركية، وهو الذي يفسر في رأيه «لماذا تعاطفت شريحة من المصريين مع من قاموا بتفجيرات نيويورك وواشنطن، كما تفسر لنا لماذا يتعاطف بعض المصريين مع صدام حسين، بزعم ان أميركا تحارب الاسلام والمسلمين».

هذه هي أطروحة الكاتب المحترم، الذي برأ فيها السياسة الأميركية من أي مسؤولية عن مشاعر الرفض والكراهية التي شاعت بين الناس، وأنحى باللائمة على الاسلاميين ومسعاهم «الشرير» لتديين المجتمع، بعد ان سيطروا على قدراته، في المدارس والجامعات والنقابات والمحاكم والأزهر والشارع والصحافة والاذاعة والتلفزيون،

إزاء هذا التشخيص لجوهر المشكلة، المتمثل في «التديين»، فإن الحل يصبح معروفا، ولا يحتاج الأمر الى لبيب لكي يفهم الاشارة ويحقق المراد، ليس عندي تعليق أو دفاع عن حكاية سقوط مصر بأيدي الاخوان المسلمين، فهم أولى بالدفاع عن أنفسهم وتصحيح المعلومات التي أشارت إليهم، ولن أقول شيئا عن مشكلة «التديين» التي تحدث عنها الكاتب، حيث احسب ان مجرد التنبيه الى طريقة استخدامها فيه الكفاية، لكن أكثر ما أدهشني وحز في نفسي حقا هو طريقة التناول ومنهج التفكير، الذي لم ير في المشهد كله سوى حكاية التدين والدين، وتجاهل تماما كافة الممارسات الأميركية والاسرائيلية بحق العرب والمسلمين.

لقد خطر لي ان أقارن بين منهج الكاتب الياباني وتحليل عبد الرحمن الراشد وبين هذا النص الثالث، لكني احجمت عن ذلك، لان المقارنة قد تعني ان الكلام يمكن أن يؤخذ على محمل الجد، وذلك خطأ حرصت على ألا أقع فيه.

* المحرر: المقالة الثالثة المشار اليها كانت بعنوان (ماذا يُغضب «جاردن سيتي» من اميركا؟) وهي للكاتب المصري رضا هلال.