السبيل إلى تقويم التعليم في الدول العربية

TT

قبل عدة سنوات التقيت بمجموعة من اساتذة الجامعات العرب الذين شاركوا في مناقشة الظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية العربية، التي أعقبت أزمة الخليج. وعلى الرغم من أن المؤتمر كان مؤتمراً استراتيجياً في المقام الأول، إلا ان مناقشات التنمية العربية أثارت مجموعة من اشكاليات التعليم في العالم العربي. ولقد أكد الاساتذة المشاركون في المؤتمر، على ضرورة الاهتمام بمعالجة مشاكل التعليم في الدول العربية، وذلك للخروج من مأزق التخلف الذي يؤدي إلى خلق أكبر التحديات والمشاكل السياسية والاقتصادية في العالم العربي. فالتعليم هو المفتاح الحقيقي للتنمية، حيث تتمثل مخرجاته في بناء وتنمية الإنسان، وترسيخ ثقافة التنمية، ووضع الأسس الصحيحة لبرامج ومشروعات التطوير والتحديث. فلن نستطيع أن نبني الإنسان أو أن نرسخ ثقافة التنمية في المجتمع أو نضع الأسس الجيدة لبرامج العملية التنموية إلا من خلال التعليم الجيد، فالتعليم الجيد باختصار يؤدي إلى تنمية جيدة والتعليم الفاسد يقود إلى التخلف.

وإذا افترضنا ان جميع أنظمة التعليم في الدول العربية بحاجة إلى تطوير وإصلاح، فإن نقطة البدء في تحقيق ذلك تبدأ بالتقويم. فالتقويم الصحيح هو الذي يمكننا من تقديم الحلول المناسبة، ولكن هناك مجموعة من الاشكاليات والعقبات التي ترتبط بعملية تقويم التعليم وتعيق تحقيقها بالشكل المطلوب. وغالبية هذه الاشكاليات والعقبات هي ذات ابعاد ومضامين سياسية وليست تعليمية. ولهذا السبب، فإنه يمكن الافتراض بأن مشكلة التعليم في العالم العربي هي مشكلة سياسية وإدارية أكثر من كونها مشكلة تعليمية فنية. ويمكن توضيح ذلك من خلال طرح الأسئلة الأربعة التالية المرتبطة بعملية تقويم التعليم في الدول العربية: 1 ـ من يقوم بتقويم التعليم؟ 2 ـ ما هو مضمون التقويم في التعليم؟ 3 ـ ما هي أسس ومعايير تقويم التعليم؟ 4 ـ ماذا بعد تقويم التعليم؟

إجابة عن السؤال الأول، يمكن القول بادئ ذي بدء، بأن عملية تقويم التعليم في العالم العربي ليست موجودة بالشكل الصحيح ولا تحقق أهدافها المرجوة. فنحن نجد مثلا ان عملية تقويم التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية تتم من خلال خمس مؤسسات رئيسية: 1 ـ أجهزة الإعلام، 2 ـ هيئات علمية متخصصة ومعترف بها في الأوساط العلمية والاكاديمية، 3 ـ مكاتب استشارية متخصصة، 4 ـ النقابات والجمعيات المهنية المعنية مثل نقابات وجمعيات المدرسين، 5 ـ المؤسسات التعليمية نفسها مثل وزارات ومجالس التعليم والجامعات. وإذا تأملنا في تجربة تقويم التعليم العربية، نجدها تعتمد بشكل رئيسي على التقويم الوزاري الإداري الذي يفتقر بطبيعته إلى النظرة الموضوعية، ويقع أسيراً لنظرة المسؤولين في مؤسسات التعليم الذين ينحازون عادة بشكل تلقائي لسياسات وبرامج التعليم التي يشرفون على وضعها وتنفيذها. ولتجاوز هذه المشكلة، فإن بعض الدول العربية وعوضاً عن الاستعانة بالخبرات الدولية لجأت إلى تشكيل هيئات وطنية من بعض الشخصيات العلمية والأدبية والتربوية والدينية والإدارية وطلبت منها القيام بتقويم التعليم في دولها. وفي حين أن تشكيل مثل هذه الهيئات يمكن أن يساعد على تلافي عيوب التقويم الوزاري، إلا ان نقص الخبرة لدى أعضاء هذه الهيئات في مسائل وجوانب تقويم التعليم، يمكن أن يؤدي إلى ترك ثغرات كبيرة في أداء مهمة التقويم التي تقوم بها.

ورداً على السؤال الثاني، نقول إن الاعتبارات السياسية التي تؤثر سلباً على عملية تقويم التعليم في العالم العربي، تتضح بشكل أفضل عند تأملنا في كيفية التعامل مع الموضوعات التعليمية التي ينبغي أن تخضع للتقويم ومن أهمها: تقويم أهداف وسياسات وبرامج ومناهج ووسائل التعليم، وتقويم أداء المدرسين والكفاءة الإدارية وميزانيات التعليم. فإذا تأملنا مثلا في مناهج التعليم في جميع الدول العربية يمكننا أن نلاحظ وجود شعور عام بين المثقفين والتربويين والمفكرين العرب بعدم الرضاء عن المناهج القائمة. والاعتقاد السائد بينهم هو أن المناهج الحالية قديمة وتحتاج إلى تطوير، لكن المشكلة بالرغم من ذلك، تبقى مستمرة وتنتقل من سنة إلى سنة. وهناك حقيقة قدرات فنية كبيرة في جميع قطاعات التعليم العربية وهي قادرة على تطوير وإصلاح المناهج الحالية، لكنها تواجه تيارات ومصالح تمنعها من إصلاح المناهج الحالية. فالمشكلة ليست ناتجة عن عدم معرفة طرق إصلاح مناهج التعليم، ولكنها تتمثل في عدم وجود قرارات سياسية حاسمة تقوم بمواجهة عقبات تطوير وإصلاح مناهج التعليم. وهناك حاجة ايضا إلى قرارات سياسية إلزامية في مسألة المدرسين. فالمدرس غير القادر على تطوير نفسه وعلى التفاعل مع أسس التدريس الحديثة، ينبغي ألا يبقى في مجال التدريس. هكذا فعل بيل كلنتون عندما كان حاكماً لولاية اركنصاص، حيث خيّر المدرسين بين التفاعل مع متطلبات التدريس الحديثة أو ترك قطاع التدريس. وتمكن خلال أربع سنوات فقط من جعل ولاية اركنصاص تقفز من احتلال مرتبة متأخرة جداً بين الولايات الأمريكية الخمسين إلى احتلال مرتبة تضعها ضمن الولايات الخمس الأولى، وذلك فيما يتعلق بأداء الطلاب وقدرتهم على الالتحاق بالتعليم الجامعي. وهناك ضرورة أخرى تستدعي تطوير وتغيير وسائل التعليم المتبعة في الدول العربية. فالفشل الكبير في تعليم اللغة العربية بشكل صحيح في جميع دول العالم العربي، أصبح أمراً معروفاً لا يحتاج إلى التوضيح. والمشكلة في هذا الأمر، لا تتعلق بمناهج تعليم اللغة العربية، فهي لغتنا ومناهجنا فيها صحيحة، لكن المشكلة تكمن في الوسائل المتبعة في تعليمها. وهناك مقاومة من بعض التقليديين في قطاعات التعليم لتطوير وسائل تعليم اللغة العربية. ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن تطوير وإصلاح إدارات وميزانيات التعليم في الدول العربية، حيث توضح الظروف والأوضاع القائمة الحاجة إلى اتخاذ قرارات سياسية فعلية لمعالجة المشاكل الإدارية والمالية في التعليم.

أما في شأن الطرق المتبعة في تقويم التعليم، فيمكن القول إن عمليات تقويم التعليم في الدول العربية تواجه ثلاث مشاكل رئيسية: 1 ـ عدم الاهتمام بتقويم نتائج برامج التطوير. فنجد مثلاً أن غالبية أو جميع مؤسسات التعليم العربية تقرر دورات تدريبية لأساتذة المدارس، ويلتحق المدرسون بالدورات المطلوبة وتنتهي المسألة عند هذا الحد. ويعود الأساتذة إلى التدريس وغالباً ما يبقى أداؤهم التعليمي على وضعه الأول الذي سبق التحاقهم بالدورة. 2 ـ أن عملية تقويم أهداف وسياسات ومناهج وبرامج التعليم لا تهتم بمعرفة مدى النجاح في نشر وتجسيد ثقافة التنمية بين الطلبة. فجميع المجتمعات العربية هي مجتمعات نامية ولم تزل ثقافة التنمية في العالم العربي تواجه مشاكل قيمية وفكرية عديدة تعيق بلورتها وتجسيدها في العقول والقلوب. ويُفترض في برامج ومناهج التعليم العربية أن تُوجه ليس فقط لخدمة برامج التنمية، لكن للمساعدة في تكوين وتأسيس ثقافة التنمية بين الطلاب والطالبات. 3 ـ تقتصر عمليات التقويم غالباً على دراسة علاقة المنجزات بالأهداف وتفتقر إلى المقارنة مع الآخر فيما يتعلق بأهداف وسياسات ومناهج التعليم وغيرها من الموضوعات المعنية بالتقويم. وينبغي اتخاذ قرارات سياسية عربية تلزم بإجراء المقارنة بين الدول العربية وبينها وبين الدول المتقدمة وخاصة فيما يتعلق بمناهج ووسائل التعليم وبأداء المدرسين، فعدم الاعتماد على المقارنة يفقد التقويم أهميته الأساسية.

ماذا بعد التقويم في التعليم؟ ان الهدف من تقويم (evaluation) التعليم هو تقييم (correction) وتطوير (development) العملية التعليمية. ولقد علمت من اخصائي متميز في التعليم العربي أنه من النادر أن نجد تعديلاً أو تطويراً في أهداف أو سياسات أو برامج أو مناهج أو وسائل أو إدارة التعليم في الدول العربية مبنيا على نتائج تقويم محدد. فحتى ولو وجدت بعض المقترحات المفيدة الناتجة عن إحدى دراسات تقويم التعليم، فإن الافتقار إلى القرارات السياسية الملزمة بتطبيق نتائجها سوف يجعلها على الأغلب تنتهي في ملفات مركونة بالأدراج.