دفاعا عن مجلس التعاون (1 من 2)

TT

ربما كان الحديث عن مجلس التعاون، هذه الايام، امرا لا يقابل باهتمام. فالأمة العربية مأخوذة بقضايا تتصدر همومها واهتماماتها كالأزمة بين الولايات المتحدة الاميركية والعراق، وتردي الاوضاع في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وهاجس الارهاب الذي اربك الدنيا كبيرها وصغيرها.

على ان مجلس التعاون ليس حدثا عابرا في حياتنا السياسية، بل هو شأن عربي كبير لا يمكن تجاوز الحديث عنه اذا اقتضى الأمر مناسبة الحديث فيه.

لا اذكر قمة من قمم مجلس التعاون جاء انعقادها على نحو ما انعقدت به قمة الدوحة في اجتماعها الثالث والعشرين في دولة قطر. وأعلم، يقينا، ان ليس بين قادة دول مجلس التعاون من كان يتمنى ان يأتي انعقادها على نحو ما أتى عليه. وأعلم ايضا انهم، جميعا، حريصون على تماسك هذا الكيان. ولما كان غياب بعض القيادات عن تلك القمة ـ كما جاء التصريح به ـ له أسبابه (الخاصة) فإن هذا الامر يظل شأنا داخليا للدول المعنية به لا مجال للحديث فيه.

ومهما قيل في التهوين من تداعيات ذلك الغياب، فإن الحدث كان امرا بالغ الاهمية والدلالة. فشعوب مجلس التعاون تريد مجلسا قويا متماسكا ثابت الاركان يحتضن آمالها، ويستجيب لتطلعاتها، وينأى بها عن الخلط والارباك والاثارة الاعلامية غير المسؤولة، في مرحلة بالغة الحساسية والحرج. والأمة العربية تواجه تحديات قد لا يقوى احد على كبح جماحها واحتواء آثارها.. واني لأرجو مخلصا ان يزول، زوال القناعة والحسم، ما احاط بقمة الدوحة من ملابسات.

لقد جاء الاعلان، في قمة الدوحة، عن قيام الاتحاد الجمركي بين دول مجلس التعاون من دون ان يحاط هذا الاعلان بما يستحقه من الايضاح والمساندة الاعلامية والتبشير به كواحد من اكبر المنجزات الاقتصادية في العالم العربي.. فقد ألقت الظروف التي احاطت بانعقاد قمة الدوحة بظلالها على كل ما يعنيه مجلس التعاون، من تجمع اقتصادي واجتماعي وسياسي بين دول وشعوب لا يماثلها في تقاربها تجمع عربي آخر. وارتفعت اصوات مخلصة قلقة على مسيرة مجلس التعاون هي اقرب للنعي منه للمؤازرة، واقرب لانكسار النفس منها للتطلع والتفاؤل، كأن هذا التجمع العربي الوحيد الذي حقق انجازات عديدة غير منظورة على حافة الانهيار.

ان قيام مجلس التعاون واحد من الايجابيات النادرة في العمل العربي الجماعي الناجح.. وايا كانت المآخذ عليه فإنه يظل عملا سياسيا متكاملا، تجاوز في تحقيق ما انتهى اليه توقعات جميع المراقبين الذين استقبلوا ولادة هذا المجلس بالقليل من الثقة والكثير من الاستخفاف، مسترجعين ما عايشوه من محاولات عربية مماثلة بعضها لم يعمر، والبعض الآخر مات في مرحلة الاحتضان. ولعل ما اجتمع لمجلس التعاون من مقومات التماثل على نحو استثنائي نادر قد ساعد على استمراره وتماسكه وصموده في وجه الاحداث العاتية التي عصفت بالمنطقة التي ينتمي اليها.

واذا كانت الجامعة العربية بدولها الاثنتين والعشرين قد عانت من عجزها عن توفير الاجماع في قراراتها ـ وهذا أمر مفهومة دواعيه ـ فإن مجلس التعاون بدوله الست، جعل التوافق لا التصويت، القاعدة في اتخاذ قراراته. وظلت هذه الحقيقة عاملا ضامنا لوحدة المجلس، وجنبته مخاطر التصويت والاختلاف في الرأي وما قد يؤدي اليه من تصدع في كيانه. وعلى الرغم من كون التصويت جزءا من آليات العمل في مجلس التعاون، فإني لا اذكر ان المجلس الاعلى، او المجلس الوزاري، او اللجان الوزارية المتعددة، قد لجأت يوما في اتخاذ قراراتها الى التصويت..! واذا ما تعذر التوافق في الاجماع، احالوا موضوع الخلاف لاجتماع لاحق ليتم الاتفاق عليه بعد ان يمهد له باتصالات ثنائية تنتهي بتأمين الاجماع عليه. وقد استهدفت هذه الرؤية الحكيمة وجوب توفر القناعة لدى جميع الاطراف بالقرار الذي ينتهون اليه، عملا بمبدأ التساوي بين اعضائه، وضمانا لجديتهم في تنفيذ القرار. وقد ينتج عن هذا الاسلوب في العمل الجماعي ان تأتي بعض قراراته متأخرة بطيئة.

ولعل السؤال الذي يطرحه مواطنو مجلس التعاون، هو: ماذا حقق المجلس لهم.. وقد مضت على قيامه عشرون عاما؟ وهذا تساؤل مشروع، وعلى هذا التساؤل يبنى تساؤل آخر.. هل مجلس التعاون تجمع اقتصادي أم تجمع سياسي أم كلاهما معا؟ ولمن الصدارة في اعماله وقراراته..؟

في واحد من لقاءاتي مع المواطنين تحدثت «مزهوا» عن الانجازات التي حققها المجلس خلال ستة اعوام من عملي امينا عاما له. تحدثت اليهم عن الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة وما يمثله هذا القرار من فتح اقتصادي غني المضامين، وعن شبكة الربط الكهربائي بين دول المجلس، واطلاق ممارسات الانشطة الاقتصادية، والمهن الحرة، وفتح فروع للبنوك، وتملك العقار، وانشاء مكتب براءة الاختراع، ومعاهدة الدفاع المشترك، والمشاريع العسكرية، والاجتماع التشاوري للقادة، والهيئة الاستشارية وما تمثله من عمل غير مسبوق في الحياة السياسية العربية، وما تحقق قبل ذلك من سوق حرة بين دوله.. وامور عديدة اخرى، فلم أر في عيون الحاضرين اهتماما بما تحدثت به وأكدت على شمول منافعه.

المواطن الخليجي لا يتابع اجتماعات مجلس التعاون بالكثير من الاهتمام، لأن المجلس وامانته العامة لا يعالجان قضايا وثيقة الصلة بحياتهم اليومية، كبناء المدارس وبناء المستشفيات، ومعونات الغذاء، وتحسين وضع التعليم، وترقيات الموظفين، والنظر في احوال العمال والمزارعين، وما الى ذلك من اسباب معيشتهم اليومية.. فهذه مسؤولية الدول وليست مسؤولية منظمة دولية اقليمية اسمها مجلس التعاون. القرارات الصادرة عن مجلس التعاون عمل تنظيمي يستهدف ـ على المدى البعيد ـ توثيق العلاقات بين شعوب دول المجلس في شتى مناحي الحياة كي يجعل، في النهاية، من دوله الست وطنا واحدا يتمتع فيه المواطن بالحقوق ويلتزم فيه بالواجبات.. على غرار ما حققه الاتحاد الاوروبي خلال خمسين عاما من العمل التنظيمي المتواصل.

لقد انفرد مجلس التعاون، كتجمع عربي اقليمي، بتحقيق العديد من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيه على نحو لم يشهده تجمع عربي آخر. ولأن الوقوف على مجمل هذه المكاسب الجماعية أمر يستوجب الايضاح بالتفصيل، فإني ادعو المهتمين بهذا الامر والباحثين عن الحقيقة فيه، الى الرجوع للأمانة العامة لمجلس التعاون للمزيد من الاستقصاء والمعرفة.

واعود لأقول بأن الاقتصاد له الصدارة في اعمال مجلس التعاون. فالتعاون البيني في المجالين الاقتصادي والاجتماعي يشكل تسعين بالمائة من حجم التعاون العام بين دول مجلس التعاون. اما السياسي والعسكري فهما مكملان لما هو اضخم واكبر واشد التصاقا بمصالح المواطنين. وزراء الدفاع يجتمعون مرة واحدة في العام، وشؤون الاقتصاد والاجتماع يعقد لها عشرون اجتماعا وزاريا كل عام.

فما هو إذن نصيب السياسة والدفاع في مجلس التعاون؟

* الأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي